الصفحات

الأربعاء، 6 مارس 2013

التأدب مع الله عز وجل .... آيات وتأملات :

(1)
قول إبراهيم عليه السلام كما في الآية : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) 
وذلك تأدبا مع الله لم ينسب إليه المرض مع أنه قال في الآيات التي قبلها ( الذي خلقني ) ( والذي هو يطعمني ) وعندما وصل للمرض تأدب مع الله ولم يقل ( والذي إذا أمرضني )

(2)
موسى عليه السلام لما نزل مدين قال: 
(ربِّ إني لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير)،
لم يقل: يا ربِّ لم تنزل عليَّ الخير، أو لم أفقرتني 
وإنما قال: (إني لما أنزلت إليَّ من خيرٍ فقير) 
فتأدباً مع الله عز وجل واعترافاً بفضله قال بأن الخير قد نزل عليَّ ولكنَّني ما زلت فقيرًا.

(3)
عندما فارق الخضرُ موسى عليهما وعلى أنبياء الله السلام ، أبلغَه بالأمور التي كان موسى يظنها خطأً ، فقال له عن السفينة : (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ) فنسب عملَ خرقِ السفينة إلى نفسه ، لأن العملَ هو إلحاقُ العيب بالسفينة ، فظاهرُهُ الشرُ ، فنسبَه إلى نفسه ، أما فلما تكلمَ عن بناء الجدار قال : (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) فلما كان العملُ هو البناءَ والرحمةَ ، فظاهرُ العمل هو الخيرُ ، نسب الخضرُ عليه السلام الأمرَ إلى الله تعالى .
وقال في نهاية القصة : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي أن الأمورَ كلَّها من الله تعالى ، ولكنه من باب الأدبِ والمدحِ والثناءِ على الله ، نسب الخير إلى الله تعالى ، والشرَ إلى نفسه .

(4)
قال الصالحون من الجن عندما تبين لهم أن السماء أصبحت مليئة بالشهب لتقضي على من يسترق السمع منهم ، كما جاء في الآية : ( وإنا لاندري أشرٌ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربٌّهم رشداً ) [الجنّ:10] ، 
قالوا: " أشراً أريد بمن في الأرض " 
ماقالوا : "أشر أراده ربهم بهم" ..
نسبوا الرشد لله تعالى ..ونسبوا الشر للمجهول تأدبا مع الله تعالى .

(5)

قال الله عز وجل : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } الآية 83 من سورة الأنبياء
وقال عز وجل : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } الآية 41 من سورة ص 
وفي الآيتين تلطّف أيوب عليه السلام ـ وهو يشكو إلى الله ما أصابه ـ فقال: "أنّي مسّني الضر"، " أني مسني الشيطان " ولم يقل: (مسني الضر من عندك يا رب)، وهذا من حسن الأدب مع الله تعالى، فلم ينسب إليه الضر، مع أن المرض من عنده سبحانه وتعالى .

(6)

قال الله عز جل ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) الآية من سورة المائدة .
إنه استجوابٌ هائل في موقف مرهوب ، وجوابٌ من المسيح عيسى - عليه السلام- كله أدب مع الله ، ( إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) فهو لم يقل في جوابه "لا لم أقله" ! 
وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى .

(7)

يوسف - عليه السلام - الموصوف في القرآن الكريم بحسن الخُلق والخْلق، الممدوح على لسان رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام . ومن أدبه قوله عندما خرج من السجن عندما رفع أبويه على العرش قال : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ) الآية ( 100 ) سورة يوسف .

قال : ( وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ) نسب أن خروجه من السجن إحسان من الله , وهذا من التأدب مع الله عز وجل . 


(8)

آدم عليه السلام لمّا أٌهبط من الجنة إلى الأرض قال : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [الأعراف:23] 
ولم يقل : ربِّ قدّرت عليّ هذه المعصية وقضيت علي بها .. ونحو ذلك ، 
بل نسب الظلم إلى نفسه : " ربنا ظلمنا أنفسنا " .
وفي هذا أدب مع الله سبحانه وتعالى.

(9)

ذكر الله جل وعلا في كتابه الكريم سليمان عليه الصلاة والسلام، فسليمان عبد ملك يوحى إليه، وابن نبي، ونبي كذلك، ومع ذلك يتوسل إلى ربه قائلاً: ( وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) [النمل:19]، 
فانظر إلى ذلك التوسل: وهو أن يشمله الله جل وعلا برحمته، وأن يدرجه في عباده الصالحين، مع أنه نبي، وابن نبي وملك، وابن ملك، صلوات الله وسلامه عليه.

(10)

نبينا صلى الله عليه وسلم ضرب المثل العظيم في الأدب مع ربه عزّ و جلّ . 
ومن أمثلة ذلك ما يذكره المفسرون عند قوله سبحانه وتعالى : ( مازاغ البصرُ وما طغى ) [النجم:17]
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ارتفع إلى السماء لم يزغ بصرهُ ولم يطغ ، أي لم يزغ يميناً أو شمالاً ، ولا طغى فنظر أمام المنظور ، إنما كان مطرقًا خاشعًا.. 
"مازاغ البصر وما طغى" فهذا صفة مقدمه صلى الله عليه وسلم على ربّه ، و يتجلّى في ذلك كمال أدبه عليه الصلاة والسلام.


(11)

الله عز وجل في قصة نوح عليه السلام مع ابنه : (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) سورة هود ، الآيتين 46 - 47

ينادي نوح عليه السلام ابنه وكان في معزل بنداءٍ يقطر شفقة و حنان وعاطفة وسفينتهم تجري بهم في موجٍ كالجبال : (( يا بني اركب معنا ))
وحينما قال له ربنا تبارك وتعالى : (إنه ليس من أهلك ) لأنه كافر ، إذ لم يكن على علم بأنّ ابنه من الكافرين فلمّا أخبره الله بذلك اعتذر عن سؤاله كما في قوله تعالى { إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } وطلب المغفرة والرحمة من الله وعدم الخسران ( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .

(12)

قال الله عز وجل على لسان قوم شعيب - عليه السلام - :

{ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } -[هود:91] 
أي ما نفهم ولا نعقل كثيرا من قولك ، فانظر إلى سوء الأدب مع الأنبياء فهم يعيرونه بأنه ضعيف ، فهم لا يقصدون ضعف العشيرة ، وإنما ضعيف لأنه كان ضريراً عليه السلام، فالكلام هنا ليس فيه مجابهة حجة بحجة، ولا مناظرة وإنما هذه سفاهة وسوء أدب.
{وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
يعني: نحن نسكت عنك فقط مراعاة لأهلك، أما لو كنت وحدك لرجمناك بالحجارة وقتلناك، ولست العزيز عندنا الذي نهتم لأمرك ولشأنك.
وبعد كل هذه السفاهة منهم وسوء الأدب مع نبيهم شعيب - عليه السلام - كان من المتوقع أن يقول لهم عليه السلام بأنه ليس ضعيفا أو ينتصر لنفسه ، ولكنه قال لهم كما في الآية التي بعدها :
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } - [هود:92] 
أي كيف تراعونني وتتركوني لأجل قومي ، ولا تتركوني إعظاما لجناب الله ، وقد اتخذتم جانب الله {وراءكم ظهريا } أي نبذتموه خلفكم ، لا تطيعونه ولا تعظمونه {إن ربي بما تعملون محيط } أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها . 


(13)

يقول الله تبارك وتعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن قصة يونس - عليه السلام - مع قومه كما في سورة القلم :
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } - الآية : (48)
أي اصبر يامحمد ولا تكن كصاحب الحوت في غضبه وعدم صبره على قومه حين نادى ربه وهو مملوء غمًّا طالبًا تعجيل العذاب على قومه .
ثم قال الله عز وجل في سورة الأنبياء : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } - الأنبياء :(87)]
النبي يونس بن متى - عليه السلام - هو صاحب النون، والنون: الحوت ( إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) على قومه حيث دعاهم إلى الله ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب .
( فنادى في الظلمات) وهو في ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل .
ولكنه عليه السلام كان في غاية الأدب مع ربه فسبح الله في الظلمات {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} - الصافات : (143- 144)
 لولا أنه سبح الله هنالك، وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه، والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة. ولبعث من جوف ذلك الحوت.


(14)

قال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } - [البقرة:30] .

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين .
وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا  {أتجعل فيها } وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال {إني أعلم ما لا تعلمون }.

ثم قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } -[البقرة:31]
هذه واحدة من أربع خصال شرف الله بها آدم، فقد علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وهذه لم تجتمع لأحد.
{فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ } - [البقرة:31-32]
وهذا من أدب الملائكة عند ربها { قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } - [البقرة:32] فالإنسان إذا سئل عما لا يعلم لا يضره أن يقول: لا أعلم، فقد قالت الملائكة بين يدي ربها: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).


(15)

عندما أمر الله سبحانه وتعالى موسى - عليه السلام - بدعوة أعْتَى أهل الأرض كفراً، وطغياناً، وأكثر جنوداً وعتاداً، فرعون الذي ادّعى الألوهية كذباً وزوراً :
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } - طه ( الآية : 24)
بعدها طلب موسى - عليه السلام - من ربه عز وجل سبعة مطالب متتالية  :
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي • وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي • وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي • يَفْقَهُوا قَوْلِي • وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي • هَارُونَ أَخِي • اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي • وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } الآيات من سورة طه : 25 - 32
انظر للعبد الصالح موسى - عليه السلام -  وهو يطلب الوزير لا ليستعين به على أمور الدنيا المحضة ، فمن يقرأ الآيات السابقة يتوقع بعد كل هذه المطالب أن تكون من أجل غرض دنيوي ، ولكنها كما في الآيات :
{كيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا • وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} الآية : 33-34
 فانظر إلى أدب الأنبياء هو لايريد أن يفخر على الناس بفصاحته وبلاغته يريد أن تنفكك العقدة ولو فكة واحدة حتى يستطيع أن يبلغ بها رسالة الله .

(16)

يقول الحق تبارك وتعالى قول قوم صالح لنبيهم  : { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } -[سورة هود :(62)]
أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها 
، وهنا تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف للنبي صالح - عليه السلام .
وهم الذين جاء ذكرهم في سورة القمر كما في قول الله عز وجل :
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ • فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ • أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } (سورة القمر : 23-25)
وصفوا نبيهم الكريم الذي أرسل إليهم وكانوا يعرفون خصاله وأخلاقه وقالوا فيه ( قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا ) ، ووصفوه بقولهم (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ )
ثم جاء رد الأنبياء ونصحهم لقومهم وحسن أدبهم مع خالقهم : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }
لم يرد عليهم كما ردوا عليه بالكذب بل رد على علم ومعرفة وبيان من الله وبهدي النبوة ، رد عليهم باستفهام معناه النفي أي لاينصرني من الله إن عصيته أحد ولا يمنعني من عذابه أحد ، فما تزيدونني غير تخسير أي تضليل وإبعاد من الخير .
 

(17)

يقول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

أي قل يا محمَّد معظِّمًا لربِّكَ، وشاكرًا له ومفوِّضًا إليه ومتوكِّلاً عليه
{بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}
الخير كله منكَ ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأمَّا الشرُّ فإنَّه لا يُضاف إلى الله، لا وَصْفًا ولا اسْمًا ولكنه يدخل في مفعولاته ويندرج في قضائه وقدره فالخير والشرُّ داخلان في القضاء والقدر، فلا يقع في مُلْكِه إلاَّ ما شاءه، ولكن لا يُضاف إلى الله، فلا يُقال (بيدكَ الخيرُ والشرُّ) ولكن بيدك الخير ، كما قال الله وقال رسوله.
وجاء عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه في قيام الليل: أنه كان يقول: ( والخير كلُّه في يديْكَ، والشرُّ ليس إليْكَ) ،  تأدبا مع الله .
وبهذا تبين أن الأولى بل الأوجب في الثناء على الله أن نقتصر على ما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى أعلم بنفسه، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به، فنقول "بيده الخير" ونقتصر على ذلك كما هو في القرآن الكريم والسنة.


(18)

يقول ربنا عز وجل : { يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109]
أي في يوم القيامة حين يجمع الله الرسل عن ماذا أجابتكم به أممكم ؟
وما الذي رد عليكم قومكم ؟
وكان جواب الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - (لا علم لنا) كلمة توحيدية،  وفي أعلى درجة من الأدب وهم يقولون للرب عزَّ وجلَّ: ( لا علم لنا ) إلا علم أنت أعلم به منا ، وهو من باب التأدب مع الرب جلَّ جلاله ، ولا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فإنك { أنت علام الغيوب} .


(19)

قال الله عز وجل: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } - [الأنعام   :75].
واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك في أن إبراهيم - عليه السلام - من أعظم الموقنين .
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } - [الأنعام:76-78]
التوكيد على الاعتراف بالتوحيد لله سبحانه .
فلما برئ مما يشرك به قومه أصبح الناس ينتظرون منه ما سيعبده بعد ذلك ، فقال: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } -[الأنعام:79].

وقد تكرر الاعتراف لله في هذا الدعاء أكثر من مرة:
فقوله: "وجهت وجهي"، 
وقوله: "حنيفا"،
وقوله: "وما أنا من المشركين".
كلها عبارات تدل على التوحيد، ولم يقل - عليه السلام - : (وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاجج بها) 
وإنما أدرج في ذلك كل المخلوقات لأن الله رب المخلوقات جميعاً وهذا من كمال الأدب والخضوع للخالق عز وجل ، فهو عليه السلام -إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء ، وإليه تنسب الملة ، وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور:
أولها: أنه جعل ماله للضيفان.
والثاني: أنه جعل بدنه للنيران.
والثالث: أنه جعل ولده للقربان.
والرابع: أنه جعل قلبه للرحمن. 


(20)

قال الله تعالى:
{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } -[الأعراف : 127]
يخبر ربنا تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى - عليه السلام - وقومه من الأذى { وقال الملأ من قوم فرعون} أي لفرعون { أتذر موسى وقومه} تدعهم { ليفسدوا في الأرض} يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك .
قال فرعون لقومه : {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ }
بقتل الأبناء واسترقاق النساء ، ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه.
وبعد كل هذا التهديد من فرعون وقومه قابل موسى - عليه السلام - هذا الموقف بحث المؤمنين على الاستعانة بالله والصبر على الابتلاء ووعدهم بنصر الله، كما ذكر الله ذلك عنه بقوله : {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ  } - [  الأعراف :128]
(قال موسى لقومه) لما شكوا إليه ما لقوه من فرعون، قال لهم بكل أدب مع الله وعبودية له واعترافا بفضله عز وجل والواثق بنصره وهكذا هدي أنبياء الله الروية والسكينة والنظر في العاقبة وعدم الاستعجال لنصر الله (استعينوا بالله) عليكم أن تفزعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأن تستعينوا به على هذا البلاء،
(واصبروا) على أذاهم.
( إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا ) يعطيها ( مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) النصر والظفر للمتقين على عدوهم .
وبعد ذلك قال قوم موسى لنبيهم عليه السلام في الآية التي بعدها : {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } صرح لهم بما رمز إليه فقال: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } وكلمة ( عسى ) من الخالق واجبة ومتحققة بأن يهلك فرعون وجنوده، (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.


(21)

قال الله تعالى في قصة النبي هود - عليه السلام - مع قومه :
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ •  يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ • 
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ }

ثلاث دعوات من هود - عليه السلام - لقومه فيها التودد إليهم والنصح والشفقة عليهم :
{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ }
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ }

ولكنهم ردوا على نبيهم هود - عليه السلام - بشبهات ، كما في قوله تعالى : 
{قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ •. إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ }
وهذه الشبهات على النحو التالي :
1) ما جئتنا ببينة .
2) ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك .
3) ما نحن لك بمؤمنين .
4) اعتراك بعض آلهتنا بسوء . 

{ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي حجة واضحة. 
{ وما نحن لك بمؤمنين} إصرارا منهم على الكفر. 
{ إن نقول إلا اعتراك} أي أصابك.

جاءهم الرد من نبيهم كما في قوله تعالى : 
{قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ • مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ• إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}

وقد جاء جواب هود - عليه السلام - حاسما حازما ، فبدأ بآخر الشبهات وأخطرها (التعلق بالآلهة ) ، فقال : ( إني أُشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) فإن زعمتم أنها أصابتني بسوء ، فأنا أعلن براءتي منها وأُشهد الله عز وجل وأُشهدكم على ذلك أيضا ، وهذا يدل على قوته - عليه السلام - وأدبه مع خالقه عز وجل .
يقول ابن سعدي رحمه الله : ومن آياته وبيناته الدالة على صدقه - عليه السلام -  أنه شخص واحد ليس له أنصار ولا أعوان ، وهو يصرخ في قومه ويناديهم ويعجزهم ويقول لهم ( إني توكلت على الله ربي وربكم ) ( إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ) وهم الأعداء الذين لهم السطوة والغلبة ، ويريدون إطفاء ما معه من النور بأي طريق كان ، وهو غير مكترث ولا مبال بهم ، وهم عاجزون لا يقدرون أن ينالوه بشيء من السوء إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .


(22)

يخبرنا الله - عز وجل -عن يعقوب - عليه السلام - كما في سورة يوسف التي هي من أحسن القصص ،  والتربية الإيمانية التي ربّى يعقوب – عليه السلام – أبناءه ..
وكيف صبر على الابتلاء ولم يجزع.
وهو يبث الشكوى لله عز وجل وحده، على الرغم من أنه يعلم أن يوسف ما زال موجوداً على قيد الحياة لأن الله تعالى أوحى إليه بذلك لكنه لم يشك إلى أحد أولاده الأحد عشر مع أنهم يستطيعون أن يبحثوا عن يوسف .
وكذلك عدم اليأس من روح الله سبحانه وتعالى ، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة مثل الإحسان إلى الناس والعفو التي جاءت في سياق الآيات .

يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف - عليهما السلام - انه كما أراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك ، اختارك واجتباك :
 {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

{قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}

{ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}

{عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}

وقال لبنيه عند ذلك {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
أعلم أن اللّه سيرد إليَّ يوسف.

هكذا حكى لنا الله تعالى عن نبيه يعقوب مع أبنائه ..
في صِغرهم ، وفي كِبرهم ..
في رخائهم ، وفي شدّتهم ..
في وقت حُزنه ووقت فرَحه ..
يعلّقهم – عليه السلام – بالله جلّ وعلا ..
ويبثّ في قلوبهم روح حياتهم ..
فيعلّمهم أنّ كل شيء بيدِ الله ، وأنّ له مِن صفات الكمال والجلال سبحانه ، ما يجعل النفس تترك كل الكون وتتعلق به وحده سبحانه .
وهكذا في بقية خطابه مع أبنائه حين يعلّقهم بالله وحده وأنه هو النافع الضار ..
وأنّ الله عزّ وجلّ شهيد ، وكيل ، لا تخفى عليه خافية ..
ويعلّقهم بالله تبارك وتعالى حين يخبرهم أنه على كل شيءٍ قدير ..
فيسمع مِن عبده شكواه ، ثمّ إذا ما رأى حاجته وذله وانكساره ... أعطاه الكريم أرحم الراحمين .
ويعلّمهم بقدرته وأنّه مهما بلغت الشدائد فإنه لا يأس ، ما دام أنّ القلب قد تعلّق به وحده سبحانه ..
ثمّ يعلّقهم بالله ويخبرهم أنه غفور رحيم ..
يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ..
فلا تيئسوا ، ولا تتعاظموا ذنوبكم أمام رحمة الله ..
ويقبل التوبة مادام العبدُ صادقًا نادمًا .
هكذا كان أدب يعقوب - عليه السلام - مع خالقه عز وجل ، وكيف ربّى أبناءه على ذلك .


(23)

يقول الله عز وجل عن تعنتات وتعجيزات المشركين في سورة اﻹسراء : {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا } 
يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } أنهارًا جارية.
{ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } فتستغنى بها عن المشي في الأسواق والذهاب والمجيء.
{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } قطعًا من العذاب، 
{ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } جميعًا، أو مقابلة ومعاينة، يشهدون لك بما جئت به.
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ } مزخرف بالذهب وغيره 
{ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ } رقيًا حسيًا، { و } ومع هذا فـ { وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ }
ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات وكلام أسفه الناس وأظلمهم، المتضمنة لرد الحق وسوء الأدب مع الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يأتي بالآيات، أمره الله أن ينزهه فقال: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } عما تقولون علوًا كبيرًا، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة، وآرائهم الضالة {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا } ليس بيده شيء من الأمر.
ثم جاءت اﻵيات في نهاية السورة تتضمن الحق الواضح : { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم، لأمر العباد ونهيهم، وثوابهم وعقابهم، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } بالصدق والعدل والحفظ من كل شيطان رجيم { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا } من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل { وَنَذِيرًا } لمن عصى الله بالعقاب العاجل والآجل، ويلزم من ذلك بيان ما بشر به وأنذر.

{ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا }
وأنزلنا هذا القرآن مفرقًا، فارقًا بين الهدى والضلال، والحق والباطل. {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه.
{ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } شيئًا فشيئًا، مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة.
{ قُلْ } لمن كذب به وأعرض عنه: {آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا } فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئًا، وإنما ضرر ذلك عليكم، فإن لله عبادًا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } يتأثرون به غاية التأثر، ويخضعون له { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا } عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون { إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا } بالبعث والجزاء بالأعمال { لَمَفْعُولًا } لا خلف فيه ولا شك { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ } على وجوههم { يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعًا } وهذا من الذل وحسن الأدب مع الخالق عز وجل .


(24)

قال الله عز وجل في سورة الأعراف : { وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ۖ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }- ( 155 )
لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ " أي: منهم " سَبْعِينَ رَجُلًا " من خيارهم ليعتذروا لقومهم عند ربهم ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه. 
فلما حضروه قالوا: يا موسى " أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً " فتجرأوا على اللّه جراءة كبيرة وأساءوا الأدب معه: فـ " أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ " فصعقوا وهلكوا. 
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام ،  يتضرع إلى اللّه ويتبتل " قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ " أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم فصاروا هم الظالمين " وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا " ضعفاء العقول وسفهاء الأحلام ،  فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة تردعهم عما قالوا وفعلوا وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان ويخاف من ذهاب دينه فقال بكل أدب وتضرع إلى ربه وخالقه : {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ } ابتلاؤك واختبارك وامتحانك،
تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ " أنت خير من غفر وأولى من رحم وأكرم من أعطى وتفضل. 
فأجاب اللّه سؤاله وأحياهم من بعد موتهم وغفر لهم ذنوبهم.
ثم يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء نبيه موسى -عليه السلام -أنه قال فيه:
{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }( 156 )
وقال موسى في تمام دعائه " وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً " من علم نافع ورزق واسع وعمل صالح. 
" وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً " , وهي ما أعد اللّه لأوليائه الصالحين من الثواب. 
" إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ " رجعنا مقرين بتقصيرنا منيبين في جميع أمورنا. 


(25)


يقول الله عز وجل عن شهر رمضان في سورة البقرة :
{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

وفي سورة النساء يقول الله تعالى عن الصلاة : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ }.
ويقول تبارك وتعالى في سورة الجمعة :
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

وعن الحج في آيات متتالية في سورة البقرة :
{فإذا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ }
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ}

ثم بعد ذلك يقول عز وجل :
{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.
والأيام المعدودات هي أيام التشريق.

وفي سورة الحج في يقول الله عز وجل :
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } ، والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة.

وكذلك في الهدي والأضحية :
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ }
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ }.

مما يلفت الانتباه بسرعة وبقوة عند النظر في النصوص والأحكام المتعلقة بالصلاة وبالحج وبالصيام وعند الهدي والأضاحي ، ذلك الإلحاح المتكرر كثيرا على ذكر الله والاستغفار وتعظيم شعائر الله.
ويأتي ربط الاستغفار والذكر بنهاية الأعمال كما في سورة الشرح : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } . 
وفي قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ }.

وكل هذا من الأدب مع الله تعالى بأن ندعوه دعاء ثناء ودعاء مسألة والانطراح بين يديه والتعلق به والتضرع إليه والتبتل والشكر له ، لأن حياة المسلم الحق كلها لله عز وجل .


والله اعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق