الصفحات

الأحد، 17 نوفمبر 2013

العم / أحمد الطريقي - الشخصية المثالية


بسم الله الرحمن الرحيم

(العم / أحمد الطريقي – الشخصية المثالية)




أف لهذه الدنيا, إنها متى كست أوكست وإذا حلت أوحلت, إنها خداعة خلوب (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) 
صفاؤها كدر, سراؤها ضرر  
أمانها غدر, أنوارها ظلم

شبابها هرم, راحاتها سقم
لذاتها ندم, وجدانها عدم

وربما نصحت للإنسان ووجهت له رسائل تحذير
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركم مني ابتسام  
فقولي مضحك والفعل مبكي

والناس فيها أجناس, فمنهم من يجعلها مطية وبلاغا, ومنهم من يكون لها مطية وشراعا, أما الحقيقة التي لا جدال فيها, فهي مفارقتها والرحيل منها (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار).
بالأمس ودعت محافظة الزلفي رجلا من رجالاتها وسيدا من ساداتها ,كافح طويلا وعركه الدهر وأدبه ,فعاش في قومه حكيما قوي الشكيمة.
إنه أحمد بن علي بن حمود الطريقي (أبوعبدالله) حيث توفي عصر يوم الجمعة الموافق 5 محرم 1435هـ حسب تقويم أم القرى ,عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.
كان في شبابه يحب الاغتراب والأسفار ,ولكنه سريعا ما ألقى عصا التسيار وآثر  الاستقرار ,فاستوطن ديرته الزلفي أكثر من خمسين عاما ,لم يفارقها إلا لضرورة وللرياض بخاصة, تعلم مبادئ القراءة والكتابة ,ولكنه - وبرغم المخزون الهائل الذي يمتلكه من معلومات – اعتمد في حفظها على الذاكرة (الحادة),  اعتكف في مزرعته (جنوبي الزلفي) - كمصدر رزق له وأسرته-  حتى أعياه التعب, فآثر الراحة في المنزل عند الأهل والأولاد ولكنه طيلة هذه المدد كان مقصدا للزوار و محط هواة الحكمة والأشعار, يؤكد ذلك خطابه لابنه عبدالله 
يا بو علي كبر الليوان
لاجل المسايير يشهونه

واحذر تركب له البيبان
خل الهوا يدخل اركونه

وشخصية العم أحمد متعددة المواهب, تأخذ بذوي الألباب.  ولعلي أجمل أهم الخصائص والخلال التي اجتمعت في هذه الشخصية :

1- أنه شخصية (كاريزمية) جذابة خلابة.
لما وهبه الله تعالى من حسن الخَلق والخُلُق والعقل والمنطق. مما جعله شخصا مهيبا في نظر الصغار والكبار, والأقارب والأباعد ,وكأنما كان  ذلك الشاعر يتحدث على لسانه:
أحب مكارم الأخلاق جهدي  
وأكره أن أعيب وأن أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلما
وشر الناس من يهوى السبابا

ومن هاب الرجال تهيبوه  
ومن حقر الرجال فلن يهابا

إن مجلسه يصدق عليه أن يقال بأنه (بيت الحكمة) فمهما كان الحاضرون عددا أو نوعا, فالمجلس مجلل بالوقار, والكلام قاصر على(الشعر والحكمة) فلا مجال للمغتاب أو النمام أو الفاحش البذيء. وأقول بصدق : لم أعرف في حياتي شخصا بمثل هذه الشخصية الكاريزمية القوية الأخاذة المهيبة.

2- عفة اللسان .
فبرغم أنه شاعر, وبمثل تلك المثابة من قوة الشخصية, لكنه عفيف اللسان ,وفي ظني – ولا أزكيه على الله – بأنه يصدق عليه قوله صلى الله عيه وسلم:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). ولا أعرف أنه دخل في مشاكسات أو منازعات حقوقية أو شخصية مع أحد ,مع قدرته البيانية والذهنية ,وإذا ما واجه شيئا يكرهه كظم غيظه مهما وجد في نفسه من حرقة أو ضيم.

3- عزة النفس وعفتها.
وذلك مما يعرفه عنه كل من عاشره ,فمع أنه ممن عركته الدنيا وممن واجهته المصاعب ,مثل غرق بستانه وحلاله جراء السيول الغزيرة عام 1418هـ , واضطراره إلى شراء منزل داخل المدينة الا أنه تظاهر بالشجاعة والصبر ,ولم يبحث عن تعويضات من أي جهة كانت. وقد قال ضمن قصيدة :
رزقي على اللي صرف الخلق والكون
محيي العظام  الميتات الهميده

وقد بلغت عزة النفس لديه مبلغا شديدا وقاسيا في حياته ,حتى ربما لم يستطع طلب العلم والجلوس إلى الكتاتيب ومجالس العلماء إبان شبابه ,ولو قدر له أن يطلب العلم فلربما كان له شأن.
كما أن هذه العزة حرمته من ارتياد المجالس العامة والرسمية ,والمشاركة في المجالس الشورية التي كثيرا ما تتطلبها حاجه الأهالي ,مع مسيس الحاجه إلى شخصيات بمثل وزنه ,تجمع الكلمة ,وتسعى نحو تحقيق المصلحة العامة ,على أنه كان في شبابه يحب المشاركة في العرضات الشعبية في مناسبات الأفراح حاملا سيفه يستعرضه.

4- الصبر على البلوى في بدنه وماله.
أما المال فنكتفي بالإشارة المنوه عنها في الفقرة السابقة. وأما في بدنه فإنه - رحمه الله - عانى مثل غيره من مرض الربو, وفقد البصر , والخدور في الأطراف ,ولكنه لم يكن من طبعه التحدث عن ذلك , ولا الرغبة في مراجعة الأطباء بل كان (أصبر من الجمل) كما تقول العامة في أمثالها. وهو مع ذلك شكور ,وكل من زاره -  بعد أن أقعده المرض- يسمع ترديد (الحمد لله) لا يزيد عليها بما يوحي بالشكوى. وفي إحدى قصائده يذكر أن الصبر ملاذه عند حصول الشدائد:
يا صعب ماجانا مثل ما تخبرون
صبرت , لعل العواقب حميده.

5- الكرم والسخاء ,وهما ظاهران في أقواله وأفعاله .
يقول قي قصيدة سبق إيراد أولها:
واليا لفا ضيفكم عمسان
تلقا الســفر واسم لونه

بهر لهم دلـة الرسلان
سولف ,وهرجتك مازونه

واذبح لهم من سمان الضان  
وافعل ,والارزاق مضمونه

وعنوانكــم خلــه القـــعمان  
وينبي عن الخط مضمونه

وفعاله تؤكد ذلك , حتى اشتهر كرمه لدى القاصي والداني.

6- أنه موسوعة تراثية ضخمة.
تجمع القصص والحكم والأمثال والأشعار ,وذلك ظاهرة حقيقة فيه. فلا يكاد يند عنه مثل من الأمثال الشعبية , أو بيت شعر أو قصة من قصص البادية والحاضرة التي نسمعها من الرواة للموروث الشعبي .
ومن هنا كثر مريدوه ,من كل الأطياف ,العلماء وطلبة العلم ,والوجهاء ,والشعراء ,والنقاد ,من الحاضرة والبادية. وكان مجلسه لا يمل أبدا ,نظرا لتنوع الحديث ,فطورا تسمع حكاية, أو مثلا أو حكمة بليغة أو بيت شعر ,بل تسمع قصائده طويلة بإلقائه.
ثم إنه - عليه الرحمة- حسن الإنصات إلى المتحدث لا يقاطعه ,بل تجد منه التعليق على ما يسمع من المتحدثين.
ومن هنا ,يجد الجليس الأنس والمتعة ,ويتمنا أن تمتد الجلسة أمدا طويلا ,لولا الحياء وأدب الزيارة اللذان يقتضيان عدم الإطالة مع أن الزائر لا يفتقد (المحيا الطلق) من أبي عبدالله مهما طالت الجلسة.
ومن هنا  كان مرجعا بل مدرسة يتعلم فيها هواة الموروث الشعبي من كبار وصغار لكنه الموروث الجاد والمفيد ,وليس الهزلي المسف ,أو الهجاء المقذع. كما يتعلمون منه سلوم العرب الأصيلة وخصاله الجميلة .
ونظرا لهذه الشخصية الموسوعية ,وأهمية ذلك المخزون الذي قلَّم يتوافر في شخص ,فإني أتمنى على أبنائه البررة به أن يعنوا بجمعه وتنظيمه وإخراجه بالوسيلة المناسبة ,مقروءة كانت أو مسموعة.



7- والعم أحمد هو أحد شعراء العائلة (الطريقي) المرموقين.
وشعره كله نبطي ,لكنه ينبض بالحكمة والموعظة الحسنة ,وأعتقد أنه شعر يفيض مشاعر صادقة ,بعيدة عن المبالغات والمهاترات والتجاوزات ,كونه يتحدث عن شيم العرب. وشعره كله محفوظ لدى أبنائه , ولا سيما حفيده عبدالرحمن بن عبدالله وهو يستحق الاعتناء بنشره, في شتى وسائل النشر.
وبعد فإن الخلال السبع متى توافرت في شخص ,كان أشبه بشخص مثالي ,طابعة الجد ومحاسبة النفس والأنفة الشديدة والأخذ بالعزيمة في كل أنماط الحياة والسلوك ,وربما عاش على جلد الذات وتأنيب الضمير ,فيرهق نفسه ويرهق من حوله. لكن (أي كذا خلقت ) فقد كان العم يعيش تلك الحياة وينهج ذلك المنهج ,فرحمة الله وبركاته عليه ,وسلام على آله وذريته الذين تعايشوا معه .
وقفــة
قال العم يرثي (أبو عجلان) رحمهما الله :
كم خير سافر وقفت ضعونه
الموت ما خلى طويلين الأيمان

الفرق باللي لابته يفقدونه  
لا غاب شيال الأثقال بليهان

والله الموفق.
                                                              كتبه    
أ.د . عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي
      10 محرم   1435هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق