الصفحات

الأربعاء، 1 يوليو 2015

آيات ٌ وتأملات ..


حلقات خاصة بشهر رمضان المبارك لعام ١٤٣٦ هـ وهي في مجملها من فوائد وفرائد في هذه المدونة .

•••••••

[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١ ]

قال الله تعالى : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ) - [ سورة الرحمن : 33 ] 
كلمة : ( تنفذوا / فانفذوا / تنفذون ) : كلها بالذال.

وقال تعالى : ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) - [ الكهف : 109 ]

وقال تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } - [ النحل:96] ،

وقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) - [ لقمان : 27 ] 

وقوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) - [ ص : 54 ] ، 

وكلمة : ( نفد /  تنفد / ينفد / نفاد / نفدت ) كلها بالدال 

فماالفرق بين نفاذ ونفاد ؟


الحقيقة أن هناك فرقٌ شاسعٌ بين العبارتين...
فـ كلمة نفاذ – بالذال : تعني الاختراق والمضي .

أما نفاد - بالدال : تعني الفناء والانتهاء 


فالله يقول : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا )  أي: أن تخترقوا،  ( مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا  )  أي: الأمر متروك لكم إن كانت لديكم قدرة على ذلك . ثم قال جل وعلا:  ( لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ  ) أي: بقوة وقدرة تغلبون بها قهرنا وقدرتنا، ومعلوم أن هذا من تعليق الأمر بالمحال ؛ لأنه لا أحد له قدرة على الله .


وينفد ونفاد ونفدت : بالدال 
كما في قوله تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } - [ النحل:96] ، أي ما عندكم يفرغ وينقضي.

وقوله تعالى : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) - [ لقمان : 27 ] 
أي ماانقطعت ولا انقضت

وقوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) - [ ص : 54 ] ، أي رزق ربنا لا ينتهي ولا ينقطع ولا يندثر ولا ينقضي .

ويقال : الحكمُ مع النَّفاذ - بالذال :
أي حالة تلحق الحكمَ إذا كان واجبَ التَّنفيذ بمجرد صدوره مدنيًّا كان أو جنائيًّا ، بدون انتظار فوات ميعاد الاستئناف الجائز رفعه من المحكوم عليه ، وبدون انتظار الفصل في هذا الاستئناف .
ويقال نفاذ حكم القاضي : أي تنفيذه ووقوعه 
ويقال طعنة نافذة أي مخترقة .


وكثيرا ما نشاهد أو نقرأ عبارة :
( احجز نسختك قبل نفاذ الكمية ) ، أو ( يسري العرض حتى نفاذ الكمية ) !!
فهل هي صحيحة ؟
وأيهما أصح "  نفاد " بالدال أو " نفاذ " بالذال ؟
الصحيح أن يقال :
( احجز نسختك قبل نفاد الكمية ) ، أو ( يسري العرض حتى نفاد الكمية ) - بالدال .

والله اعلم

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢ ]


إشكال علمي في قصة شعيب - عليه السلام - :
ذكر الله شعيب - عليه السلام - في سور ( الأعراف - هود - الشعراء - العنكبوت ) ، وقال عز وجل في ثلاثة منها :
( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) الأعراف الآية 85

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا )
هود الآية 84

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) 
العنكبوت الآية 37

أما في سورة الشعراء فلم يذكر أنه أخوهم كما في قوله عز وجل : ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ {176} إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ {177} ) 
فما السبب ؟ 

الجواب: 
من فرائد العلم :
أن الله لما نسبهم إلى القبيلة والأرض وهي (( مَدْيَنَ )) أرضهم وقبيلتهم قال : (( أَخَاهُمْ )) لأنه فعلاً أخٌ لهم فهو ابن الأرض التي نشؤوا بها وابن للقبيلة التي ينتمون إليها .
ولما نسبهم إلى معبودهم نسبهم إلى ما يعبدون من دون الله نسبهم إلى الطاغوت (( كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ )) برأ الله جل وعلا نبيه من أن يكون أخاً لهم قال سبحانه : (( إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ {177} )) .

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٣ ]


ما الفرق البياني بين كلمتي " دارهم " و " ديارهم " في القرآن ؟ 

قال الله عز وجل في قصة إهلاك قوم النبي صالح عليه السلام {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78].
وفي سورة هود {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67].
وقوله في قصة النبي شعيب {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:91].
وفي سورة هود {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:94].
وفي سورة العنكبوت {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت:37].
ففي الأعراف والعنكبوت {الرَّجْفَةُ}، وفيهما {فِي دَارِهِمْ}
وفي هود في القصتين {الصَّيْحَةُ} و { فِي ديَارِهِمْ}.

فأخبر سبحانه عن إهلاكهم مرة بالرجفة ، ومرة أخرى بالصيحة ، ووحَّد الدار مع الرجفة ، وجمعها مع الصيحة . فما معنى كل من ( الرجفة ) ، و( الصيحة ) ؟ ولم وحَّد ( الدار ) مع الأولى ، وأتى بها جمعًا مع الثانية ؟

الصيحة هي أشمل وأهمّ من الرجفة لذا فإنها تُصيب عدداً أكبر وتبلغ أكثر من الرجفة والمعلوم أن الصوت يمتد أكثر من الرجفة ولهذا فهي تؤثر في ديار عديدة لذا جاء استخدام كلمة (ديارهم) مع الصيحة كما في الآية 67 والآية 94 في سورة هود 

ذكر أهل العلم بأن قوله تعالى :﴿ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ ﴾ . أي : في بلدهم ، كقولك : دار الحرب ، ودار الإسلام . وقد جمع في آية أخرى فقال :﴿ فِي دِيَارِهِمْ ﴾ ؛ لأنه أراد بالديار ما لكل واحد من منزله ومسكنه الخاص أو البيوت المبنية من الحجر وغيره ، وهي أخص من لفظ ( الدار) ؛ إلا أنه حيث ذكر الرجفة ، وحَّد ، وحيث ذكر الصيحة ، جمع ؛ لأن الصحية كأنها من السماء ، فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة .
ويبين لك ذلك : 

أن لفظ ( الدار ) يطلق على البناء الذي تسكنه العائِلة ، كما في قوله تعالى :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾(القصص:81) ، 
ويطلق على المكان الذي تحله الجماعة من حي أو قبيلة ، أو أمة ، كما في قوله تعالى :﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ ﴾(الرعد:31) . أي : تحل قريبًا من أرضهم ، وهو المجاور لحدودهم . 
ويطلق لفظ ( الدار ) أيضًا ، ويراد منه : الدار الدنيا ، والدار الآخرة ، ودار السلام ( الجنة ) ودار الفاسقين ( النار ) ، وقد يراد منه : مآل المرء ومصيره ؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه ، والشواهد على ذلك من القرآن كثيرة . 

فـ( الدار ) لفظ عامٌّ جامعٌ يطلق على البلد ، والأرض ، والمحلة ، وأما ( الديار ) فهو لفظ خاصٌّ يطلق على المساكن المبنية فقط ، ومثله : الدور ، وكلاهما جمع : دار . 
ويدلك على ذلك قول صالح- عليه السلام- لقومه ، لما عقروا الناقة :﴿ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾(هود:65) ، ثم قال تعالى :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾(هود:67) ، فجمع بين اللفظين معًا ( الدار ، والديار ) . أما قوله :﴿ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ﴾ فالمراد منه : في بلدكم وأرضكم ، فشمل مساكنهم جميعها ، ثم خصَّ الذين ظلموا منهم بقوله :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ ﴾ ، فعبر عن ذلك بلفظ ( الديار ) ؛ لأنه أخصُّ من لفظ ( الدار ) .

والله تعالى أعلم بمراده، وأسرار بيانه، والحمد لله رب العالمين.

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٤ ]


جاء لفظ (تبارك) في القرآن في تسعة مواضع:
 في سورة الأعراف في [الآية: 54] (تبارك الله رب العالمين)  ،
وفي سورة المؤمنون في [الآية:14](فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)  
وفي سورة الفرقان في ثلاثة مواضع :
 في [الآية:1] (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ..)  وفي [الآية:10] (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً من ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)
 وفي [الآية:61] (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً) ، 
وفي سورة غافر في [الآية:64] (فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
وَفي سورة الزخرف في [ الآية : 85 ] ( وتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .
وفي سورة الرحمن في [ الآية : 78](تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ)  ، 
وفي سورة الملك في [الآية:1] (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .

 قال ابن القيم - رحمه الله - :
 " وأما صفته " تبارك " : فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه " انتهى . " بدائع الفوائد " ( 2 / 185 ) .

 وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – بعد نقل الأقوال في معاني " تبارك " - :
 " الأظهر في معنى ( تَبَـارَكَ ) بحسب اللغة التي نزل بها القرآن : أنه تفاعل من البركة ، كما جزم به ابن جرير الطبري ، وعليه : فمعنى ( تَبَـارَكَ ) : تكاثرت البركات والخيرات من قِبَله ، وذلك يستلزم عظمته وتقدّسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ؛ لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات ويدرّ الأرزاق على الناس هو وحده المتفرّد بالعظمة ، واستحقاق إخلاص العبادة له ، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير ، ولا رزق كالأصنام ، وسائر المعبودات من دون اللَّه لا يصحّ أن يعبد ، وعبادته كفر مخلّد في نار جهنّم ، ... اعلم أن قوله : ( تَبَـارَكَ ) فعل جامد لا يتصرف ، فلا يأتي منه مضارع ، ولا مصدر ، ولا اسم فاعل ، ولا غير ذلك ، وهو مما يختصّ به اللَّه تعالىٰ ، فلا يقال لغيره " تبارك " خلافًا لما تقدّم عن الأصمعي ... وإطلاق العرب ( تَبَـارَكَ ) مسنداً إلى اللَّه تعالىٰ معروف في كلامهم " انتهى .
 " أضواء البيان " ( 6 / 262 ، 263 ) .
 وقال الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله :
 " ( البركة ) : هي صفته تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة ، والفعل منها " تبارك " ، ولهذا لا يقال لغيره كذلك ، ولا يصلح إلا له عَزَّ وجَلَّ ؛ فهو سبحانه المبارِك ، وعبده ورسوله المبارَك ؛ كما قال المسيح : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً ) ، فمن بارك الله فيه : فهو المبارَك ، وأما صفته : فمختصة به ؛ كما أطلق على نفسه بقولـه تعالى : ( تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) " انتهى .
 " الكواشف الجلية شرح العقيدة الواسطية " ( ص 283 ) .
 وعليه : فلا يجوز إطلاق هذا الصفة على أحدٍ إلا الله تعالى ، لأن مختصة به سبحانه وتعالى .

أما قول " تباركت " :
قال الأشموني في شرح ألفية ابن مالك :
 وفي شرح الآجرومية للشهاب البجائي أن تبارك تقبل التاءين تقول: تباركت يا الله، وتباركت أسماء الله " .

 والله اعلم

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٥ ]

" مكث " و " لبث ":

قال الله تعالى :
﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [النمل: 22]،
﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]،
﴿ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ﴾ [القصص: 29] [2].
 ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 3]
 ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [الإسراء: 106] .
 ﴿ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ [طه: 10].
 ﴿ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17] .

وردت كلمة مكث وجذورها في القران الكريم حوالي سبع مرات بصيغ مختلفة :
١- فعل مضارع: يمكث.
٢- حال: ماكثين.
٣- جار ومجرور: على مكث.
٤- فعل أمر: امكثوا.
٥- فعل ماضٍ: فمكث.
٦- خبر إن: ماكثون.
 
وجاءت على أربعة أوجه :
 الإقامة ، المهل ، النزول ، النفع.
 
الأول : المكث: الإقامة، ومنه قوله- تعالى- في سورة الكهف: ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 3]؛ أي: مُقِيمين.
 
الثاني: المكث؛ أي: على مَهَل، ومنه قوله- تعالى- في سورة الإسراء: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [الإسراء: 106]؛ أي: على مَهَلٍ .

الثالث: امكثوا؛ أي: انزلوا، ومنه قوله- سبحانه- في سورة طه: ﴿ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ [طه: 10]؛ أي: انزلوا.
 
الرابع: المكث: النفع، ومنه قوله- سبحانه-وتعالى - في سورة الرعد: ﴿ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]؛ أي: ينفع فيها .


أما كلمة ( لبث ) وجذورها فقد وردت 31 مرة في تسع وعشرين آية ، في تسع صيغ هي ( لبث ، لبثتُ ، لبثتم ، لبثنا ، لبثوا ، يلبثوا ، يلبثون ، لابثين ، تلبّثوا ) .
والملاحظ من خلال الآيات الكريمة أنه في جميع المرات التي ورد فيها اللبث فقد اقترن بزمن محدد ، مثل :

﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ﴾ البقرة: 259 .

﴿ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ يوسف: 42

﴿فلبثت سنين في أهل مدين﴾ [طه/40]،

﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾ طه: 103

﴿ وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ الإسراء: 76.

﴿كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم﴾ [الكهف/19]،

﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ الكهف: 25 . 

﴿فلبث فيهم ألف سنة﴾ [العنكبوت/14]،

﴿ما لبثوا في العذاب المهين﴾ [سبأ/14].

﴿لم يلبثوا إلا ساعة من نهار﴾ [الأحقاف/35]،

﴿ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾النبأ: 23 . 

﴿لم يلبثوا إلا عشية﴾ [النازعات/46]،

ونلاحظ أن مرة واحدة فقط هي التي لم يحدد فيها زمن للّبْث وذلك في قوله تعالى : ﴿ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ هود: 69 .
وذلك أن اللفظة قد سُبقت بما النافية مما يجعل المعنى ينصرف الى " فما لبث إلا قليل وقت حتى جاء بعجل حنيذ " ، لكي يفهم السامع أن إبراهيم - عليه السلام - لم يستغرق وقتاً يذكر في المجيء بالطعام ، وذلك لكرمه ولشدة اهتمامه بضيفه . 
ومما سبق نستطيع أن نفهم الفرق الدقيق بين ( مكث ) و ( لبث ) :
مكث : تفيد الاستقرار في مكان بغير تحديد زمن للإقامة ، أي متعلقة دائما بالمكان.

لبث : فتقتضي تحديد وقت معين أي متعلقة دائما بالزمان.

فعندما تقصد التزام المكان تقول امكث ، وعندما تقصد ملازمة مدة من الزمان تقول البث.

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٦ ]

قال الله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (الإسراء:12)

والله سبحانه يقول :
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون:50)...

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ}
 كم شخص؟
اثنان {ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} 
وقال عنهما في سورة المؤمنون {آيَةً} .
وفي سورة الإسراء قال : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} 
لم يقل آية ، لماذا؟

لأن عيسى ومريم - عليهما السلام - يُمكن الجمعُ بينهُما في وقتٍ واحد تراهُما في وقت واحد؛ عيسى مع أُمهِ، لكن الليل والنهار مُحال أن يجتمعا في وقت واحد إمّا أن نكون في ليل وإمّا أن نكون في نهار فهُما ضدان لا يجتمعان فلمّا كانا لا يجتمعان ثنى الله جل وعلا بقوله : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} ولمّا كان يُمكن الجمع في عيسى وأُمهِ أنهُ يُمكن لأي شخص أن يراهُما سويا قال الله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}.

وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ.. } أخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد { آيَةً.. } لأنهما مشتركان فيها: مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج، وعيسى آية لأنه وُلِد من غير أب، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر، وهما فيها سواء.
لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيُقَدِّم عيسى في آية: { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً.. } [المؤمنون: 50]
ويقدم مريم في آية أخرى:
{  وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } 
[الأنبياء: 91]
هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخيرية لا يتميز أحدهما على الآخر.

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٧ ]

ظاهرة الشروق والغروب جاءت في كتاب الله بصور وصيغ ثلاث ، قال تعالى : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }

وقال تعالى :  {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، 

وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ }

ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز ؛ المشرق والمغرب :
ذكرهما مفردين
وذكرهما على هيئة التثنية 
وذكرهما على صيغة الجمع
وكل ذكر لهما كان يوازي السياق العام الذي جاء فيه؛

ذكر الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى ( ورب المشارق ) قد بيَّنا في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" : وجه اختلاف ألفاظ الآيات في ذلك، فقلنا فيه في الكلام على قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ، ما لفظه أفرد في هذه الآية الكريمة المشرق والمغرب، وثناهما في سورة "الرحمن" ، في قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، وجمعهما في سورة "سأل سائل" ، في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ، وجمع المشارق في سورة "الصافّات" ، في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 

والجواب: 
١- أن قوله هنا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ، المراد به جنس المشرق والمغرب، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستّون، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك، كما روي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة، ما نصّه: "وإنما معنى ذلك: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ} الذي تشرق منه الشمس كل يوم، {وَالْمَغْرِبُ} الذي تغرب فيه كل يوم.
فتأويله إذا كان ذلك معناه: وللَّه ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها"، انتهى منه بلفظه.

٢- وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، يعني مشرق الشتاء، ومشرق الصيف ومغربهما، كما عليه الجمهور. وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما.


٣- وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ، أي: مشارق الشمس ومغاربها، كما تقدم.
وقيل: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها، والعلم عند اللَّه تعالى. انتهى كلامه.

ولما ذكر الله جل وعلا عبادته والتوجه إليه في الصلاة وهو حق له مطلق تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد قال سبحانه: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} فأفرد الله ذكر المشرق وأفرد ذكر المغرب.

ولما ذكر جل وعلا الانقطاع إليه والتبتل إليه وذكر وحدانيته وأنه لا رب غيره ولا إله سواه قال سبحانه لنبيه: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}
فذكرهما الله جل وعلا على هيئة الإفراد لأن السياق والمنح العام للآيات يتطلب هذا ولا ملزم على الله.

فلما خاطب الله الثقلين الجن والأنس وقال جلا ذكره: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّار ٍفَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وكان الخطاب للإثنين ثنى جل وعلا المشرق والمغرب ولم يذكرهما مفردين كما فعل في الأولين قال جل ذكره : {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
 
ولما ذكر سبحانه تفرق الناس على نبينا صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه أي القرشيين هذا يصدقه وهذا يكذبه والمكذبون له هذا يقول أنه مجنون وهذا يقول أنه ساحر وهذا يقول أنه كاهن وهذا متوقف فيه قال جل ثناؤه وتبارك اسمه: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ * فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} فجمع جل وعلا حتى يناسب اللفظ القرآني يناسب السياق العام والمنح الذي جاء فيه الأيه لما كان كفار قريش متفرقين في فهم القرآن في فهم الرسالة جاء الخطاب القرآني متفرقاً {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُون}.


•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٨ ]


وردت كلمة (إبراهيم) في القرآن كله بالياء إلا في سورة البقرة جاءت بدون الياء (إبراهم) فما دلالة ذلك؟

 وردت كلمة " إبراهيم " في القرآن الكريم  ٦٩ مرة منها ١٥ مرة بحذف حرف الياء وجميعها في سورة البقرة.
قال الله عز وجل :
{ وإذ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَهمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَهمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } -سورة البقرة124

وقال تعالى :
{ ومَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } - سورة البقرة131

وقال عز وجل في سورة الأنبياء: { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ }
وقال تبارك وتعالى في سورة الأعلى :
{ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }.

كلمة " إبراهيم " في القرآن الكريم وردت منقوطة بالياء في كل  القرآن إلا في سورة البقرة وهذا من خط المصحف لأن كتبة المصحف كانوا كُثر ولا يقاس على خط المصحف.
وهناك قاعدة تقول : "خط المصحف لا يقاس عليه". 
وعلينا أن نعلم أنه حصل تطور في تاريخ الكتابة منذ زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فبدأت الكتابة العربية تستقر وتأخذ أشكالا أخرى ولذلك نرى أكثر من رسم للكلمة مثال كلمة (لكيلا) يمكن كتابتها موصولة ويمكن كتابتها (لكي لا) ، كذلك كلمة (إذن) تكتب بالنون أو بالتنوين (إذا) وكلمة (مئة) و(مائة) وغيرها وكلا الكتابات جائز عند العرب. 
والمصحف كتبه عدد كبير من الكتبة ؛ والرسم الذي كتبوا به هو كتابتهم في أزمانهم فمرة يرسم حرف العلة ومرة لا يرسم وأحيانا يكون الرسم لاختلاف القراءات فيوضع الرسم الذي يجمع القراءات المتواترة كما في سورة الفاتحة تكتب (ملك يوم الدين) بدون ألف لأنه ورد قراءة متواترة (ملك يوم الدين ) وقراءة متواترة أخرى (مالك يوم الدين) وشروط القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لرسم المصحف .
 وكلمة (إبراهيم) في سورة البقرة ورد فيها قرائتين متواترين إحداهما (إبراهم) بدون ياء والثانية (إبراهيم) بالياء فكتبت بالشكل الذي يحتمل القراءتين.
وكون كلمة  "إبراهيم " في مواطن من القرآن بإثبات الياء فيها، وفي مواطن بحذفها، فإنها مرسومة في المصحف بالرسم الذي كتبه الصحابة وأجمعوا عليه، وهو ما يعرف اليوم بالرسم العثماني.
 وفي ذلك إشارة إلى بعض القراءات المتواترة، فإن  إبراهيم  المحذوفة الياء تنطق في قراءة  هشام  عن  ابن عامر الدمشقي  " إبراهام "فينطق بدل الياء ألف مد.

قال أبو عمرو الداني - رحمه الله - في كتابه "المقنع " :
(وبغير ياء وجدت أنا ذلك في مصاحف أهل العراق في البقرة خاصة وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام )انتهى.

وقال بعضهم : أنَّ السبب في ذلك أنَّ معظم سورة البقرة حديثها لبني إسرائيل ، وبنو إسرائيل ينطقونها ( إبراهام ) .
وقيل : أنَّ كلمة ( إبراهيم ) فيها ست لغات ، فجاء في القرآن بلغتين ، والباقية شاذة لا يقرأ بها .

وبعد عرض هذه الأقوال ، وفي بعضها تكلّف وتعسّف ظاهر ، إلا أنه يعكّر على هذه التعليلات ما جاء في المصاحف التي أرسلها عثمان ، فقد حذفت الياء من كلمة ( إبراهيم ) من المصحف الشامي والعراقي ، وثبتت الياء في سورة البقرة كبقية المواضع في المصحف المدني والمكي والإمام ، فكيف يكون التعليل لمصحف وآخر لا ، فالتعليل هنا لا ينضبط – والله أعلم - ، ثم إنه رسم في المصحف العراقي بدون ياء : وعليه قراءة أهل الكوفة والبصرة ، وهم يقرأون بالياء .

فالخلاصة:
أنَّ كل هذه التعليلات التى ذكرها العلماء لا تغني شيئاً، فالحقيقة هكذا وصلت إلينا عن الصحابة -رضوان الله عليهم - الذين كتبوا القرآن الكريم، ولم ينكشف سر ذلك لأحدٍ ، والله سبحانه علام الغيوب ، ومهما اختلف الرسم في هذه الكلمة فرواية حفص تقرأ في جميع المواضع ، هكذا ( إبراهيم ) .


 والله أعلم.

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٩ ]

قال الله تعالى في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (الروم:39) .

الربا المقصود بالآية هنا - على الصحيح - لـيس الربا المعروف المحرم؛ لأن السورة مكية، وما كان الربا قد نزل التحريم به بعد .

قال ابن عباس الربا رباءان ، فربا لا يصح يعني : ربا البيع ،
وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها . ثم تلا هذه الآية : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) .

قال ابن كثير في تفسيره أي : ( من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم ، فهذا لا ثواب له عند الله - بهذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، والشعبي  وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله الضحاك ، واستدل بقوله : ( ولا تمنن تستكثر ) [ المدثر : 6 ] أي : لا تعط العطاء تريد أكثر منه ) . أ . هـ

قال الشعبي هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه ، لا لوجه الله ، فلا يربوا عند الله لأنه لم يرد به وجه الله تعالى . 

نقرب المعنى بهذا المثال : 
شخص ما سمع أن أميراً من الأمراء زار البلدة، فقال: أريد أن أكرمه، فذهب وهو على حال وسط، فدعاه وألح وأطعمه، هو لم يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وإنما فعل ذلك لينـتـفع من عطاء الأمير، فهذا من حيث الجواز جائز، لكـن لا ثواب عليه ، من حق الإنسان أحياناً - كلٌّ بحسبه ، الناس يختلفون - أن يستفيد بمثل هذه الطريقة ، إلا أن هذه الطريقة - وإن كانت مباحة في عمومها - محـرمة في حقه صلى الله عليه وسلم، ولا تليق به ، و
الدليل قول الله جل وعلا في المدثر: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر:6)، لا تصنعها حتى تستكثر من مالك، {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} لأن هذه من طرائق جمع الأموال، وهي موجودة حتى في عصرنا ويعرفها كل أحد، أن الإنسان يحـسن إلى من غَلب على الظن أنه ليس في حاجة إليه رجاء أن يكافئه، فالله يقـول: {وَمَا آتَيْتُم} (ما) شرطية، {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} هذا شيء بينك وبينهم ..
وهناك فريق آخر من الناس يتعاملون مع الله، {وَمَا آتَيْتُم} وهذه بلاغة القرآن، هنا لم يسمها ربا، مع إن الربا لغوياً معـناه الزيادة، قال: {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ} سماها باعتبار مآلها، في أن الصدقة إذا أريد بها وجه الله تَـزكَى نفس المؤمن، {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} ، 
أي : الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء ، كما [ جاء ] في الصحيح : وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه ، فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى تصير التمرة أعظم من أحد " 

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٠ ]

ما الفرق بين (الخيفة) و(الخفية) في القرآن الكريم؟

الخيفة : من الخوف
قال تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } الأعراف - (205) 
(واذكر ربك في نفسك) أن تعلم ما تقول أي لا تذكر ربك وقلبك غافل، وتضرعاً من التضرع والخيفة وهو بمعنى التذلل والتمسكن والمسكنة والتوسل 
وقال تعالى : {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ • فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } هود -(69- 70)
أي أحسّ في قلبه منهم خوفا.

وقال عز وجل : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى } طه – (67-68 ).

خاف الشَّخصُ : شعر بنوع من الاضطراب بسبب اقتراب مكروه أو توقعه ، تهيَّب ، ارتعب ، فزِع وقف خائفًا أمام تهديداته ، { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }

(خيفة ) اسم هيئة من الخوف ، أريد به مطلق المصدر ، وأصله خوفة ، فقلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة


الخفية : من الخفاء
قال تعالى {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } الأعراف - (55). 
وقال تعالى : {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } الأنعام – (63)
وقال عز وجل عن زكريا - عليه السلام - : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } [مريم:3] 
فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة ، وهذا حال الداعي كلما كان يدعو في مكان مستتر كما دعا زكريا عليه الصلاة والسلام في مكان خلي بقلب نقي وصوت خفي كان أجدر في أن يجيبه الله . 

فالخفية : من الخفاء ، أما الخيفة من الخوف.

قال شيخ الإسلام إبن تيمية - رحمه الله - :
(وتأمل كيف قال في آية الذكر: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } الآية، وفي آية الدعاء: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، فذكر التضرع فيهما معًا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء.
وخص الدعاء بالخفية لحكم منها :
أنها أعظم إيمانًا،
وأبلغ في التضرع والخشوع والإخلاص والأدب والتعظيم .
وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف؛ فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولابد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره ) . أ. هـ

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١١ ]

قال الله جل وعلا في سورة الرحمن : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن:46-47]
ذكر الله هنا أربع جنان وجعلهما قسمين، فقال في الأولى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن:46]، ثم قال بعدها في موضع آخر : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [الرحمن:62]، وهنا من دونهما يعني: أقل منهما، وليس في الجنة أقل، فيقال: أقل منهما ثم يقال تأدباً: وليس في الجنة أقل. 

ثم قال عن الأولى: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } [الرحمن:48]، 
وقال عن الثانية: { مُدْهَامَّتَانِ } [الرحمن:64] أي: أنهما خضراوان تميلان إلى السواد،
{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } فمعناها: أنهما متنوعتا الأفانين، والأفضل الأولى وهي المتنوعة. 
ثم قال جل وعلا في الأولى: { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [الرحمن:50]، 
وقال في الثانية: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } [الرحمن:66]، وجري الماء أعظم من كونه ينضخ ويفور شيئاً يسيراً. 
وقال في الأولى: { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان } [الرحمن:52]، 
وقال في الثانية جل وعلا: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّان } [الرحمن:68]، 
ففي الأولى أطلق وفي الثانية قيد . 

وقال جل وعلا في الثانية : { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } [الرحمن : 76 ]
وقال في الأولى: { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } [الرحمن:54]، والجنى هو الثمار، وجان بمعنى: قريب، بحيث إن الإنسان لا يتكلف أي كلفة حتى يصل إليها، بل ورد أنه إذا قطفها جاءت أختها بدلاً منها، فلا يدري أهو قطفها أو لا، 
قال الله جل وعلا: { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:25].

أسأل الله أن يجمعنا ووالدينا وذرياتنا وأهلنا في جنات النعيم. 

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٢ ]

الحكمة في أن السمع يتقدم على البصر في أكثر آيات كتاب الله بينما تتقدم العين على الأذن ؟

ورد ذكر البصر في كلام الله جل وعلا كثيراً، وفي كثير منها يقدم السمع على البصر ؛ إلا أنه في آية أو آيتين أو ثلاث على الأكثر قدم البصر على السمع، فهل هناك حكمة في ذلك؟
إن تدبر كتاب الله جل وعلا وتأمل آياته بالإضافة إلى قراءة كتب التفسير الموثوق بها تساعدنا كثيرا في فهم ذلك. 
يقول ربنا جل شأنه : { قل أرأيتم أن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } - ( الأنعام 46) 

ويقول تعالى : { إنه هو السميع البصير } - ( الإسراء 1 ) 

ويقول الحق تبارك وتعالى : { قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } - ( طه 46) .

والله جل وعلا يقول : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } - [مريم:38]، .

ويقول : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء:36].

والبصر جاء في القرآن على صورة الإفراد وجاء على صورة الجمع، أما السمع فلم يرد إلا على صورة الإفراد. 
وفي مجال تقديم السمع على العلم وما جرى مجراه قد أتى في اثنين وثلاثين موضعاً، هي كل ما جاء فيه . وقدّم السمع على القرب في قوله تعالى : { وإن اهتديت فبما يوحي إلىّ ربي إنه سميع قريب } - ( سبأ 50 ) .

ولا يقف سر هذا التقديم عند تشريف المقدّم على المؤخّر، ولكن المقام يحتمل تفسيراً آخر ، فتقديم السمع على البصر لكونه أهم منه ، لأن ما يحصل من ضروب المعرفة عن طريق السمع لا يحصل عن البصر، والبصر يتوقف في تحصيله للعلم على وسائط لا يتوقف عليها السمع . 
فقد ذكر أهل التفسير بعض الحكم لتقديم السمع على البصر وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب، ولكن التقديم في الذكر مؤذن بأهمية المقدم، قالوا:
- لأن السمع آلة لتلقي المعلومات والمعارف التي بها كمال العقل وهو الطريق الأولى لتلقي وحي السماء وهدي الأنبياء، 

- وهو وسيلة بلوغ الدعوة إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع ،

- ولأن السمع ترد إليه الأصوات من الجهات الست بدون توجه بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى الالتفات والتوجه ،

- السمع والبصر هما أعظم الحواس وأقوى آلات الإدراك ولذلك ذكرا قبل الفؤاد، وذكر الفؤاد بعدهما لأنه مقر الإدراك كله، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها .

- ولأن السمع أهم في باب التكليف والاختبار من البصر لأن فاقد السمع من الصعب تكليفه بخلاف فاقد البصر الذي يكمن تبليغه وتكليفه بشكل أسهل . 

ومن الملاحظ أنه تعالى لم يفصل بين السمع والبصر بالواو كأن يقول (سميعاً وبصيرا) أنما جاءت الصفتان متصلتان { سميعاً بصيرا } لئلا يُفهم أنه تعالى خلق الإنسان على نوعين منهم من يسمع ومنهم من يُبصر. 

والطب الحديث يشهد أن المولود الجنين الصغير يسمع أولاً ثم بعد ذلك يبصر، فحاسة السمع عندهم مقدمة عملاً على حاسة البصر .

أما لماذا قدّم البصر على السمع في الآيتين المذكورتين في سورة الكهف وسورة السجدة؟ 
كما في قوله تعالى : ( أبصر به وأسمع } - ( الكهف 26 ) 

وقوله تعالى : { ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون } - ( السجدة 12 ) .

فالسبب - والله اعلم - يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم ولجأوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد ؛ لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم . إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية.
وكذلك في آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمين الذين كانوا في الدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها ولا يبصرون لكن ما يسمعونه كان يدخل في مجال الشك والظنّ ولو تيقنوا لآمنوا ، أما في الآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه لأنهم أصبحوا في مجال اليقين وهو ميدان البصر (عين اليقين) والآخرة ميدان الرؤية وليس ميدان السمع وكما يقال ليس الخبر كالمعاينة.
فعندما رأوا في الآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولذا اقتضى تقديم البصر على السمع لأن الإنسان يرى قبل أن يسمع إذا بعثر ما في القبور وحشر الناس ، قال تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً } - ( الإسراء 97 ) 

وكانت المفاجأة والتي وجهت الأنظار إلى السر المذهل وراء تقديم السمع على البصر، هي الآيات التي جاء فيها ذكر ( العين ) و( الأذن )، ففي هذه الآيات نلاحظ أن ( العين ) تتقدم ( الأذن ) على عكس السمع والبصر. ففي سورة الأعراف: [آية 179]: { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } .

وفي الآية [195] من الأعراف : { أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } .

وفي المائدة: [ آية: 45]: { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن } .

فإذا كان السمع يتقدم البصر في الآيات السابقة فإن العين تتقدم الأذن في هذه الآيات ، فلو كان التقديم للتشريف لتقدمت الأذن على العين كما تقدم السمع على البصر لأن الأذن أداة السمع والعين أداة البصر.
إذن فالقضية ليست قضية شرف عضو على عضو بل هي شيء آخر .
وقد اجتهد العلماء في البحث عن ذلك ووجدوا أن هناك مراكز للسمع داخل المخ البشري يتم فيها إدراك المسموعات وعقلها وهناك مراكز للبصر داخل المخ البشري يتم فيها إدراك المبصرات وعقلها وأداة مركز السمع هي الأذن التي تجلب إليها الأصوات وأداة مركز البصر العين والتي تجلب إليها الصور.
ومع أن العين تتقدم الأذن في رأس الإنسان فإن مركز السمع يتقدم مركز الإبصار في مخ الإنسان تشريحياً.
ووجدوا أن الترتيب المكاني للسمع والبصر في الآيات يأتي وفقاً للترتيب المكاني لمراكز السمع والبصر في مخ الإنسان .
وكل ذلك يتطلب المزيد من التأمل في آيات الله والتفكر في مخلوقاته { وَفى أَنفُسِكُم ۚ أَفَلا تُبصِرونَ } .

•••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٣ ]

الفرق بين ( وما أدراك ) ، ( وما يدريك ) عندما تأتي في سياق الآيات الكريمة في كتاب الله عزو جل ..

من الآيات التي جاء فيها لفظ (وما أدراك ) قول الله عز وجل في مواضع عدة :
{وما أدراك ما الحاقة}
{وما أدراك ما سقر}
{وما أدراك ما يوم الفصل}
{وما أدراك ما يوم الدين}
{وما أدراك ما سجين}
{وما أدراك ما عليون}
{وما أدراك ما الطارق}
{وما أدراك ما العقبة}
{وما أدراك ما ليلة القدر}
{وما أدراك ما القارعة}
{وما أدراك ما هيه}
{وما أدراك ما الحطمة}

أما الآيات التي جاء فيها لفظ (وما يدريك) :
قوله تعالى : {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا}
وقوله تعالى : {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب}
وقوله تعالى : {وما يدريك لعله يزكى}

فما الفرق بين الكلمتين ؟

ما أدراك:
كل شيء في القرآن (وما أدراك) فقد أخبر به وذلك أن ما في الموضعين للاستفهام الإنكاري .

ما يدريك :
إنكار ونفي للإدراك في الحال والمستقبل فإذا نفى الله ذلك في المستقبل لم يخبره ولم يفسره 

وفي ما أدراك إنكار ونفي لتحقق الإدراك في الماضي ولا ينافي تحققه في الحال أو المستقبل فأدرى الله بإخباره وتفسيره" اهـ .


قال يحيى بن سلام:
بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدراك} فقد أدراه إياه وعلمه. 
وكل شيء قال { وما يدريك} فهو مما لم يعلمه. 

وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه { وما أدراك} فأنه أخبر به، وكل شيء قال فيه { وما يدريك} فإنه لم يخبر به. 

مثال ( وما أدراك ) :
{وما أدراك ما ليلة القدر} الجواب (ليلة القدر خير من ألف شهر )


مثال (وما يدريك ) : 
في قوله تعالى : (وما يدريك لعل الساعة قريب} الجواب علمه عند الله ولم يخبر به .

•••••••

[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٤ ]

تشابه كبير في بعض آيات سورتي البقرة واﻷعراف


قال الله تعالى في سورة البقرة : 
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } الآيات 58-59 

وقال الله عز وجل في سورة الأعراف :
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } الآيات 161-162

يجب أن توضع كل آية في سياقها لتتضح الأمور والمعنى والمقصود ، فآية سورة البقرة في مقام التكريم تكريم بني إسرائيل، بدأ الكلام معهم بقوله سبحانه { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } البقرة (47)
العالمين هنا أي قومهم في زمانهم وليس على كل العالمين .
إذن السياق في سورة البقرة في مقام التكريم يذكرهم بالنعم وفي سورة الأعراف في مقام التقريع والتأنيب ، وذكر جملة من معاصيهم فهم خرجوا من البحر وانتهكوا حرمة السبت ورأوا أصناماً فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وعبدوا العجل وهذا لم يذكره في سورة البقرة .

ويلاحظ التشابه الكبير في الآيات مع وجود بعض الاختلافات في التعبير ، مثل :
في سورة البقرة : ( قُلْنَا ) 
وفي سورة الأعراف (وإذ قيل لهم) بالبناء للمجهول .

في سورة البقرة : ( ادخلوا ) 
وفي الأعراف ( اسكنوا )

في سورة البقرة : ( فَكُلُواْ ) 
وفي الأعراف (وَكُلُواْ )
الفاء تفيد الترتيب والتعقيب.

في سورة البقرة زيادة لفظ : ( رغداً ) ، 
وفي الأعراف لم يذكرها لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.

التقديم والتأخير في قوله تعالى في سورة البقرة : (وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ ) .
وفي الأعراف : ( وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ) .
في سورة البقرة : تقديم السجود لأنه مقام التكريم وهو من أشرف العبادات وأقرب ما يكون العبد لربه . 
أما في الأعراف فهم في السياق مبعدين عن ربهم لمعاصيهم. 
في سورة البقرة : ( خطاياكم ) 
وفي الأعراف ( خطيئاتكم ) ، 
الخطايا هي جمع كثرة وإذا غفر الخطايا فقد غفر الخطيئات قطعاً وهذا يتناسب مع مقام التكريم الذي جاء في سورة البقرة .
وخطيئات جمع قلّة وجاء هنا في مقام التأنيب وهو يتناسب مع مقام التأنيب والذّم في سورة الأعراف.

في سورة البقرة : ( وَسَنَزِيدُ ) 
وفي الأعراف ( سنزيد ) ، إضافة الواو هنا تدل على الاهتمام والتنويع ولذلك تأتي الواو في موطن التفضّل وذكر النعم.

في سورة البقرة : ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً )
وفي الأعراف (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً ) ، زيادة (منهم)

في سورة البقرة : (َ فأَنزَلْنَا على الذين ظلموا ) 
وفي الأعراف (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ) ، وقول أرسلنا في العقوبة أشدّ من أنزلنا .

في سورة البقرة : (بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ) 
وفي الأعراف ( بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ) ، والظلم أشدّ .

آيات جديرة بالتأمل والتدبر .

•••••

[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٥ ]

من حِكَمِ تقديم جهاد المال على جهاد النفس :

اقترن جهاد المال بجهاد النفس في القرآن في عَشَرة مواضع ، ستاً منها في سورة التوبة ، وتقدَّم فيها جهاد المال على الجهاد بالنفس في تسعة منها ، وتقدَّم جهاد النفس على جهاد المال في موضع واحد ، ولذلك حِكَمٌ وأسرارٌ، وقف عليها المفسرون، رحمهم الله.
الآيات التي تقدَّم فيها المال على النفس: 
1- قال - تعالى -: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة:41].
2- قال - تعالى -: { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [الصف:١١].
3- قال - تعالى -: { وَالْـمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْـمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } [النساء: 95]. 
4- قال - تعالى -: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } [الأنفال: 72]. 
5 - قال - تعالى -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ } [التوبة: 20]. 
6- قال - تعالى -: { لا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [التوبة:٤٤].
7- قال - تعالى -: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
8- قال - تعالى -: {فَرِحَ الْـمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة: 81].
9- قال - تعالى -: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [التوبة: ٨٨].

الآية التي تقدَّمت فيها النفس على المال: 
10- قال - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْـجَنَّةَ } [التوبة: ١١١].

من حِكَمِ تقديم جهاد المال على جهاد النفس في أقوال العلماء: 
قال ابن القيم – رحمه الله – في حكمة تقديم المال على النفس : 
« أولاً : هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً وجب عليه أن يكتري بماله.
ومن تأمَّل أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته في أصحابه - رضي الله عنهم -وأَمْرَهم بإخراج أموالهم في الجهاد، قطع بصحة هذا القول. والمقصود: تقديم المال في الذكر، وأن ذلك مشعِرٌ بإنكارِ وَهْمِ مَنْ يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادراً على أن يغزو بماله لا يجب عليه شيء؛ فحيث ذكر الجهاد قدَّم ذكر المال؛ فكيف يقال: لا يجيب به؟ 
ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس، لكان هذا القول أصحَّ من قول من قال: لا يجب بالمال، وهذا بَيِّن، وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر. 
وفائدة ثانية: على تقدير عدم الوجوب؛ وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتَها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله - تعالى - محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته؛ فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحبَّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها؛ وهي بذل نفوسهم له؛ فهذا غاية الحب؛ فإن الإنسان لا شيء أحبَّ إليه من نفسه، فإذا أحب شيئاً بذل له محبوبه من نفسه وماله، فإذا آل الأمر إلى بَذْلِ نفسه ضنَّ بنفسه وآثرها على محبوبه. 
هذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية؛ ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فرَّ وتركهم، فلم يرضَ الله من محبيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتهم. وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب؛ فإن العبد يبذل ماله أولاً يقي به نفسه، فإذا لم يبقَ له ماله بذل نفسه؛ فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع.
وأما قوله - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} [التوبة: ١١١]، فكان تقديم الأنفس هو الأَوْلَى ؛ لأنها هي المشتراة في الحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استلمها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّته، فكانت هي المقصودة بعقد الشراء. والأموال تَبَع لها فإذا مَلَكها مشتريها ملك مالها؛ فإن العبد وما يملكه لسيده، ليس له فيه شيء؛ فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها». أ. هـ

وقال الشنقيطي - رحمه الله -: «وحقيقة الجهاد بَذْلُ الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب، وهو مدد الجيش، وهو أهم من الجهاد بالسلاح؛ فبالمال يُشتَرَى السلاح، وقد تُستَأجَر الرجال؛ كما في الجيوش الحديثة من الفِرَق الأجنبية، وبالمال يجهَّز الجيش؛ ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم، وأعذر معهم الرسـولَ - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لم يوجد عنده مـا يجهزهم به؛ كما في قوله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْـمَرْضَى} [التوبة: 91]، إلى قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}[التوبة: 92].
وكذلك من جانب آخر: قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء، كما ورد عن زيد بن خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» رواه البخاري .
أما الآية الثانية: فهي في مَعْرِض الاستبــدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة؛ فقدَّم النفس؛ لأنها أعزُّ ما يملك الحي، وجعل في مقابلها الجنة؛ وهي أعزُّ ما يوهَب، وأحسن ما قيل في ذلك.
وقال أبو بكر الجزائري في كتاب أيسر التفاسير : «يخبر - تعالى - مرغباً في الجهاد بالمال لتقدُّمه على الجهاد بالنفس؛ لأن العدة أولاً والرجال ثانياً» .

جهاد المال ينقسم إلى قسمين: 

القسم الأول: 
- المشاركة بالمال في تجهيز المجاهد بالسلاح .
- دعم المجاهدين الذين استجابوا لنداء الجهاد تاركين خلفهم أولادهم ونسائهم وإنفاق المال لكفالة أُسَر المجاهدين .
- الإنفاق على أُسر الشهداء الذين سالت دماؤهم من أجل الإسلام والذود عنه.
- إنفاق المال لتعمير أثار تدمير بيوت المسلمين: فمن خصال اليهود والكفار والطواغيت على مَرِّ العصور التدمير والخراب .

القسم الثاني:
هو مقاطعة المعتدي الغاصب اقتصادياً ومالياً؛ وذلك من الجهاد بالمال أيضاً؛ فإذا كان الإنسان بخيلاً أو عاجزاً أو ضعيفاً؛ لا يستطيع المشاركة بماله في دعم تحرير هذه الأوطان المقدسة، فعلى الأقل يشاركُ بَقَطْعِ دعم العدو المحتل الغاصب.

وفي سؤال لفضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - قال فيه السائل: نجد أن الله - عزَّ وجل - في كثير من آيات الجهاد يقدِّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ فما الحكمة من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: يظهر - والله أعلم - لأن الجيش الإسلامي قد يحتاج إلى المال أكثر من حاجته إلى الرجال؛ ولأن الجهاد بالمال أيسر من الجهاد بالنفس .  مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 25/ 312  .

وفي السُّنة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس: 
عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«جَاهِدُوا الـمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» رواه أحمد في مسنده .
الْجِهَادُ الْمُتَعَيِّنُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ: 
إذا كان المجاهد مديناً وتعيَّن الجهاد لدفع الضرر، قُدِمَ الجهاد بالمال على سداد الدين. قال ابن تيمية - رحمه الله -: «فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ الـمُتَعَيِّنُ لِدَفْعِ الضَّرَر؛ِ كَمَا إذَا حَضَرَهُ الْعَدُوُّ، أَوْ حَضَرَ الصَّفَّ قُدِّمَ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ كَالنَّفَقَةِ وَأَوْلَى»   الفتاوى الكبرى: 5/ 537 .

فاللهم انصر المجاهدين في كل مكان ...
ووفق المسلمين لنصرتهم...

•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٦ ]


قال الله عز وجل في سورة الأعراف :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ¤ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ¤ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين } الآية 59-61
نوح - عليه السلام -قال له قومه: {إنا لنراك في ضلال مبين } 
فأجابهم: { يا قوم ليس بي ضلالة } ولم يقل بل أنتم أهل الضلال !

وقال عز وجل :
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ¤ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ¤ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين } الآية 65-67

هود - عليه السلام -قال له قومه: {إنا لنراك في سفاهة}
فأجابهم: { يا قوم ليس بي سفاهة } ولم يقل بل أنتم السفهاء !

ما أجمل رقي الأخلاق في تعامل الأنبياء .

•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٧ ]

قال الله تعالى : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } [التوبة:108]،
وبعدها: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) [التوبة:108]، وهاتان (فيه فيه) كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل، فهذه إحدى التأملات.

ومثلها قول الله في سورة الأنعام : { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } [الأنعام:124]
وبعدها: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام:124]، 
فجاء لفظ الجلالة مكرراً لا يفصل بينهما فاصل إلا المعنى، فتقف عند قول الله جل وعلا: { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } [الأنعام:124]
ثم تقول: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام:124].

ومن التأملات : جاءت ثلاث هاءات في القرآن متوالية لا يفصل بينهما فاصل، وهي في قول الله جل وعلا: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23] فإلهه مختومة بهاءين، والكلمة التي بعدها مبدوءة بها، فأصبحت ثلاث هاءات جاءت وراء بعضها البعض.

وقال الله تعالى في سورة الإسراء : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } الآية (7) من سورة الإسراء.
أحسنتم أحسنتم كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل، 
قال أهل الإشارات : هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال : ( وإن أسأتم فلها ) ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك . 

فهذه التأملات تعينك وتحفز همتك على تدبر كلام الله، وتدبر كلام الله أياً كان فهو نافع؛ لأن الإنسان لا بد أن يشغل نفسه بحق أو بباطل حتى ولو فكر ذهنياً، فلأن تنقضي الأعمار في التفكر في كتاب الواحد القهار خير من أن تنقضي في شيء آخر أياً كان.
وهذا سر أن علم القرآن أشرف العلوم.

•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ١٩ ]

قال سبحانه وتعالى : { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)،
وقال عز وجل: {ونضع الموازين القسط} (الأنبياء:47).
وقال : { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } (الجن:14)
وقال : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } (الجن:15). 

فماالفرق بين "المقسط" و  "القاسط" ؟


تذكر معاجم اللغة أن لفظ (القسط) يدل على معنيين متضادين: أحدهما: العدل ، يقال: أقسط يقسط فهو مقسط: إذا عدل فيما أُسند إليه. والاسم منه (القِسط) بكسر القاف. والإقساط: أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف. والثاني: الجور: يقال: قَسط يقسِط قسوطاً فهو قاسط: إذا جار وظلم فيما أسند إليه. والاسم منه (القَسط) بفتح القاف، و(القُسوط). والقَسط: أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور. وعلى هذا يقال: إن الله يُقْسِط ولا يَقْسِط. ويقال: أمر الله بالقِسْط، ونهى عن القُسط. 
ولفظ (القسط) مأخوذ في العربية من لفظ (قسطاس) اسم العدل بلغة الروم، فهو من المعرب. وروي ذلك عن مجاهد.
وقد ورد لفظ (القسط) في القرآن الكريم في نحو سبعة وعشرين موضعاً، وورد في أكثر تلك المواضع كاسم مقرون بالباء، نحو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} (النساء:135)،
وورد في بعض منها كفعل، نحو قوله سبحانه: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)، وورد في موضعين كاسم آلة للوزن، وذلك في قوله تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} (الإسراء:35)، (الشعراء:182).

وأكثر ما ورد لفظ (القسط) في القرآن الكريم إنما جاء على المعنى الأول، من ذلك قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} (آل عمران:18).
وقوله سبحانه: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9)،
وقوله عز وجل: {ونضع الموازين القسط} (الأنبياء:47).

"المقسطون " بالميم من أقسطوا من الرباعي فهؤلاء هم أهل العدل الموفقون المهديون الذين يعدلون في حكمهم وفي أهليهم وفيمن ولاهم الله عليهم .
وجاء بيان مكانتهم العالية في الحديث الصحيح : عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حُكمهم وأهليهم وما ولُوا" رواه مسلم.

وورد لفظ (القاسط) في موضعين فقط ، أحدهما في قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} (الجن:14)
فالقاسطون هم الجائرون الهالكون .
والموضع الآخر في قوله سبحانه: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} (الجن:15). 
يعني الظالمين الجائرين المعتدين المتعدين لحدود الله، وهم الذين توعدهم الله بأن يكونوا حطبًا لجهنم .

قال الطبري : " يقال أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطاً ، وهو مقسط إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه ، فإذا جار قيل قسط فهو يقسط قسوطاً ".

الخلاصة :
"القاسط" والقاسطون : من الفعل "قسط " ومعناه : جار وظلم ، فهو ضد العدل.
أما "المقسط " والمقسطين : فمن الفعل "أقسط " ومعناه : عدل ، وأعطى كل ذي حق حقه.

••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٠ ]

الموت والوفاة ... 

قال الله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } 

وقال تعالى :  { اذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } 

وقال عز وجل : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }.

وقال تعالى : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ }


الوفاة في القرآن جاءت :
١- بمعنى الموت .
٢- بمعنى النوم .
٣- بمعنى الرفع .

فالله سبحانه وتعالى يتوفى الأنفس حين موتها (عند النوم) فإذا لم تمت في ذلك النوم فإنه يرسلها إلى اليقظة والحياة مرة أخرى لأن موعدها مع الموت لم يأتِ بعد ، بينما يمسك النفس الأخرى التي قضى عليها الموت فلا تعود إلى اليقظة والحياة من جديد ، فنقول عن هذه النفس أنها ميته كما في قوله عز وجل : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى اجل مسمى } - [سورة الزمر 42 ].
ولعل حالة وفاة عيسى عليه السلام الدليل القاطع بعودته ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان ، كما قال تعالى :  { اذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } - [سورة آل عمران /٥٥].
فهو متوفى وليس بميت وهذا ينطبق تماما مع حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -  ( لا تقوم الساعة حتى ينزل ابن مريم فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ) وكذلك مع ما جاء في القران الكريم { وانه لعلم للساعة فلا تمترن بها } - [ الزخرف / ٦١] .

قال الله - عز وجل - عن عيسى - عليه السلام - في سورة المائدة : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } - [ سورة المائدة / ١١٧].
كلمة {تَوَفَّيْتَنِي} عن عيسى - عليه السلام - فسرها بعض أهل العلم بمعنى استوفيت رسالتي ، والرفع من لوازمها ، بمعنى تقول : وفى زيد ما عليه أي أدى ما عليه ،
وقد يخرج الإنسان من دوامه مثلا فيقال له : أين تذهب؟ 
قال : وفيت عملي .
فعيسى - عليه السلام - بُعث ثم رُفع فانتهت نبوته ورسالته برفعه ، ولم تنتهِ حياته ، فما بعد عودته بعد نزوله للأرض ليس له علاقة بالنبوة والرسالة  ، لكنه جزء من حياته ، أما الأول له علاقة بالنبوة والرسالة ، فيصبح معنى{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، بعد ذلك ينفذ قضاء الله وقدره حين يأتي الوقت المعلوم فلا يبقى على الأرض آية مخلوق { كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } - [ سورة الرحمن / ٢٦-٢٧].

كثيراً ما نقول فلان ( توفى ) بفتح التاء والفاء ، فهل هذا صحيح ؟
وأيهما أصح أن يقال : توفى أو توفي؟


( تَوفَّى ) :
بفتح التاء والفاء - بالبناء للفاعل - فهذا خطأ ، لأن الذي يتوفى هو الله كما جاء به القرآن في قوله عز وجل { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } - [ سورة الزمر / ٤٢].


( تُوُفَّيَ ) :
بضم التاء والواء وكسر الياء المشددة وفتح الياء في آخره - بالبناء للمفعول - وهو الصحيح أن يقال ، لأن الميت متوفَّى وليس متوفِّيا ..
إذاً من الأخطاء الشائعة عند الناس أن تقول (توفى فلان) بالألف المقصورة إذ أن الصحيح هو (مات) أو (توفي ) بالياء وليست الألف المقصورة .
وقال تعالى واصفا الميت بأنه يتوفى : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } - [الحج/5]

وجاءت الأحاديث والآثار صريحة في تسمية الميت متوفى أو أنه توفي ،  وحسبك ثالث حديث في صحيح البخاري وهو حديث بدء الوحي الطويل .. وفي آخره : " ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي " .
وحديث وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوله من حديث أنس - رضي الله عنه - : أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصلي لهم في وجع النبي - صلى الله عليه و سلم - الذي توفي فيه ..
وفي حديث ( وأرخى الستر فتوفي من يومه ) صحيح البخاري .
بل جاء بلفظ النبي نفسه كثيرا منها : " ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" صحيح البخاري .

ولما توفي النجاشي بالحبشة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه " . صحيح البخاري .

•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٢ ]

 " بلى " و " نعم " ..

ولو قالوا بجوابهم "نعم" بدلاً عن "بلى" لكفروا ؟!


كلمة (بلى) أصلها ( بل) زيدت عليها الألف مما جعلها صالحة للوقف عليها، وهي جواب لكلام فيه نفي، قال ابن الجزري - رحمه الله - في " التمهيد " :  " إذا أجَبْتَ بـ (بلى) بعد الجحد نفيت ذلك الجحد ، ولا يصلح أن تأتي بـ (نعم) في مكانها، ولو فعلت ذلك لكنت مُحقّاً للجحْد، وذلك نحو قوله تعالى: {ألسْتُ بربكم؟ قالوا: بلى} ويعني أنّ قولهم (بلى) نفيٌ للجحد المذكور في الآية فاعترفوا بالربوبية، ولو قالوا نعم ؛ لأنكروا الربوبية ".
ونقل عن ابن عباس – رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى : ﴿َ وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ - (الأعراف :172) - لو قالوا﴿ نَعَمْ ﴾ لكفروا ،لأن النفي إذا أجيب عنه بـ﴿ نَعَمْ ﴾ كان تصديقا ، فكأنهم أقروا أنه ليس بربهم .

الفرق بين بلى ونعم :
بلى :
 لا تكون إلا جوابا لما كان فيه حرف جحد كقوله تعالى " ألست بربكم قالوا بلى " وقوله عز وجل " ألم يأتكم رسل منكم " ثم قال في الجواب " قالوا بلى ".

 نعم :
 لا تكون للاستفهام بلا جحد كقوله تعالى " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم " وكذلك جواب الخبر إذا قال قد فعلت ذلك قلت نعم لعمري قد فعلته، وقال الفراء وإنما امتنعوا أن يقولوا في جواب الجحود نعم لأنه إذا قال الرجل مالك علي شيء فلو قال الآخر نعم كان صدقه كأنه قال نعم ليس لي عليك شيء وإذا قال بلى فإنما هو رد لكلام صاحبه أي بلى لي عليك شيء فلذلك اختلف بلى ونعم.

وردت (بلى) في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً، فمِنَ القراء مَنْ وقف عليها مُطلقاً، ومنهم من لا يقف ويصلها بما بعدها، ومنهم من فصّل، وقد ذكر الداني - رحمه الله - مَنْعَ الوقوف عليها في مواضع القَسَم الأربعة ، وزاد بعضهم موضعاً خامساً وهو الذي في سورة الزمر، وفيما يلي هذه المواضع الخمسة التي لا يجوز فيها الوقف على (بلى) :
 ١- {قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربِّنا} [الأنعام:30].
 ٢- {قل بلى وربي لتأتينَّكم} [سبأ:3].
 ٣- {أليس هذا بالحق قالوا بلى وربِّنا} [الأحقاف:34].
 ٤- {قل بلى وربي لتُبعثنَّ} [التغابن:7].
 ٥- {... فأكون من المحسنين • بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } - [الزمر: 58-59].

أما المواضع التي يجوز فيها الوقف على (بلى) فهي كما يلي:
 ١- {بلى من كسب سيئةً وأحاطت به خطيئته} [البقرة:81].
 ٢- {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} [البقرة:112].
 ٣- {قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة:260].
 ٤- {بلى من أوفى بعهده واتقى} [آل عمران:76].
 ٥- {بلى إن تصبروا وتتقوا} [آل عمران:125].
 ٦- {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف:172].
 ٧- {فألقوا السّلَمَ ما كنا نعمل من سوءٍ بلى} [النحل:28].
 ٨- {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى} [النحل:38].
 ٩- {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} [يس:81].
 ١٠- {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى} [الزمر:71].
 ١١- {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} [غافر:50].
 ١٢- {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف:80].
 ١٣- {... أن يحيي الموتى بلى} [الأحقاف:33].
 ١٤- {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى} [الحديد:14].
 ١٥- {ألم يأتكم نذير . قالوا بلى قد جاءنا} [الملك: 8-9].
 ١٦- {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه . بلى قادرين} [القيامة: 3-4].
 ١٧- {إنه ظنَّ أن لن يحور . بلى} [الانشقاق: 14-15].

 ثانياً: الوقف على (نعم):
 وردت (نعم) في القرآن الكريم في أربعة مواضع، هي:
 ١- { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [الأعراف:44].
 
٢- {إن كنا نحن الغالبين . قال نعم وإنكم لمن المقربين} [الأعراف: 113-114].
 ٣- {إن كنا نحن الغالبين . قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين} [الشعراء: 41-42].
 ٤- {قل نعم وأنتم داخرون} [الصافات:18].
 ولا يجوز الوقف على (نعم) إلا في الموضع الأول وبه تمّ الكلام، أما في المواضع الثلاثة الأخيرة فلا يجوز الوقف عليها لتعلُّقها بما بعدها.

قال العلاَّمة ابن عُثيمين – رحمه الله - :
( بَلَى: حرف جوابٍ، وتختصُّ بالنَّفي فتُبْطله سواء كان مُجرَّدًا كقوله تعالَى : ( زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ )،
أم مقرونًا باستفهامٍ حقيقيٍّ مثل : "أليسَ زيدٌ بقائمٍ"، فتقول: بلَى،
أو توبيخيٍّ كقوله تعالَى: ( أمْ يَحْسَبونَ أنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلَى )،
أو تقريريٍّ كقوله تعالَى : ( ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ).
وقد يُجابُ بِها الاستفهامُ المجرَّد كقوله في الحديث : " أتَرضَوْن أن تكونوا رُبْعَ أهلِ الجنَّة ؟
" قالوا: "بلى"، وهو قليل. . . . 

نَعَمْ: حرفُ تصديقٍ ووَعْدٍ وإعلامٍ
فالأوَّل بعد الخَبَر : كقام زيدٌ
والثَّاني : بعد افعلْ ولا تَفعلْ وما في معناهما،
والثَّالث بعد الاستفهام نحو: هل جاء زيدٌ ؟
قيل: وتأتي للتَّوكيد إذا وَقَعَتْ صدرًا نحو: "نعم هذه أطلالهم"، والحقّ أنَّها في هذا حَرْف إعلامٍ، وأنَّها جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر.
واعلم أنَّه إذا قيل: "قام زيدٌ" فتصديقه: "نعم"، وتكذيبه: "لا"، ويمتنع دخول "بلَى" لعدم النَّفي، وإذا قيل: "ما قام زيدٌ"؛ فتصديقه: "نعم"، وتكذيبه: "بلَى"، ويمتنع دخول "لا" لأنَّها لنفي الإثبات لا لنفي النَّفي. والحاصل أن "بلَى" لا تأتي إلا بعد نفيٍ، وأن "لا" لا تأتي إلا بعد إيجابٍ، وأن "نعم" تأتي بعدهما ) . انتهَى كلامه رحمه الله .

ويستحب لكل من قرأ :
قول الله عز وجل : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) ، سورة التين - 8
وقوله : (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) سورة القيامة - 40
وقوله : ( أليس الله بكافٍ عبده) ، سورة الزمر - 36
( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) سورة الأنعام - 53

أن يقول ( بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ) أو ( سبحانك بلى ) وذلك بعد التلاوة .

روى أبو داود عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال: سبحانك فبلى. فسألوه عن ذلك، فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

قال ابن كثير تفرد به ، ولم يسم هذا الصحابي، ولايضر ذلك. 

وقال الشيخ ابن باز - رحمه الله : ويستحب هذا للإمام والمأموم والمنفرد لأنه دعاء، فهو مطلوب منهم كالتأمين، وكذلك الحكم في القراءة في غير الصلاة.
وروى الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ ( أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى ) قال: بلى، وإذا قرأ (أليس الله بأحكم الحاكمين) قال: بلى .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

أمثلة للتوضيح :
 تقول:  ما أكلت شيئا، فيقول الراد: بلى، فينزل فيزيل نفــيــه، والمعنى بلى أكلت، فإن قال الراد: نعم، فقد صدقه نفيه عن نفسه الأكل، ويصير المعنى : نعم لم آكل شيئا. 
مثال أخر:
تقول: " أليس الله بعزيز ؟
 " فيقول الراد نعم ؟
فإن قال هنا نعم فهي مقوله كفريه لأنه ينفي أن الله عزيز ولا يكفر صاحبها إلا إذا كان عالما بما يقول، فإن قال نعم الله عزيز هنا تزول الشبهة ويُقِر ويثب المقولة بأن الله عزيز، لكن معظم الردود تكون نعم ويتوقفوا عن الإكمال، لذلك وجب أن يكون الجواب ببلى للإقرار والإثبات.
الخلاصة:
 إذا كان الاستفهام منفيًا ، فالجواب يكون بــ ( بلى ) .
 أما إذا كان الاستفهام مثبتًا ، فالجواب بــ (نعم ) .

والله تعالى اعلم

••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٣ ]



يقول الله عز وجل : { فذرهم يخوضوا ويلعبوا} ،
{ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا} ،
{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ،
{إنه لا يحب المعتدين} ،

إيات تعددت فيها أساليب القرآن الكريم في خطاب النفس البشرية، ما بين ترغيب وترهيب، وإنذار وتبشير، ووعد ووعيد. وكان التهديد من الأساليب التي اعتمدها القرآن في خطابه؛ وذلك أن من النفوس البشرية من لا تستجيب لنداء الحق إلا إذا خوطبت بخطاب فيه تهديد ووعيد.

والمتأمل في القرآن الكريم يجد أن أسلوب التهديد لم يأت بصيغة التهديد الصريحة فحسب، بل جاء في العديد من المواضع بطريق التلميح والتعريض، وبطرق أخرى ، من ذلك :

• التعبير بصيغة (افعل) وهي صيغة أمر، وليس المراد حقيقة الأمر بل المراد هو التهديد، وهذا نحو قوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا} (النحل:55)، فصيغة الأمر {ليكفروا} و{فتمتعوا} ليس المراد منها الأمر بالكفر والتمتع بالحياة الدنيا، بل المراد حقيقة التهديد، وكأن المعنى: استمروا فيما أنتم عليه من الكفر والعصيان والتمتع بزخرف الحياة الدنيا، فسوف تعلمون يوم الحساب عاقبة هذا الكفر والتمتع. وهذا الأسلوب في صرف الأمر عن حقيقته كثير في القرآن الكريم، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {قل تمتع بكفرك قليلا} (الزمر:8). 

• ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة العلم، قال أبو حيان: وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن بذكر (العلم)، والمثال على هذا قوله عز وجل: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} (البقرة:223)، فالأمر بـ (العلم) بأن لقاء الله آتٍ لا مفر منه مشعر بالتهديد. ومن هذا القبيل أيضاً، قوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} (الأنعام:119). 

• ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة (أَفْعَل) والمراد المبالغة في التهديد والزجر، والمثال عليه قوله سبحانه: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} (البقرة:114)، ففي الآية تهديد عظيم لمن منع مساجد الله أن تقام فيها العبادة.
 ونحو هذا قوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} (البقرة:140). وهذا غير قليل في القرآن.

• ومن صيغ التهديد الإملاء للمعرضين والإمداد لهم، والمثال عليه قوله سبحانه: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} (الزخرف:83)، وهذا كما يقول الأب لولده: افعل ما يحلو لك، فسوف تعرف عاقبة ما تفعله. ونظير هذا قوله عز وجل: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (الطور:45).

• ومن صيغ التهديد سوق الجملة مساق الإخبار، نحو قوله سبحانه: {ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر} (القمر:51) فهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإهلاك، وبأنه يفاجئهم قياساً على إهلاك الأمم السابقة. ونظيره قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول} (المزمل:16)، وهذا خبر أيضاً، الغرض منه التهديد بأن يحلَّ بالمخاطبين لما عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما حلَّ بفرعون.

• ومن صيغ التهديد الأمر بما هو خلاف مراد الله سبحانه، نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف:29)، فقوله: {فليكفر} ليس أمراً بالكفر، بل سيق الكلام مساق التهديد والزجر من الكفر. ونظيره قوله عز وجل: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} (الإسراء:107).

• ومن صيغ التهديد سوق الكلام مساق الاستفهام، والمثال عليه قوله عز وجل: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} (يوسف:109)، فالكلام سيق مساق الاستفهام، غير أن المراد التهديد والوعيد لمن لا يسير في الأرض، وينظر في سنن الله في الخلق والكون. ونظير هذا قوله سبحانه: {ألم نهلك الأولين} (المرسلات:16). وهذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم.

• ومن صيغ التهديد التعبير بلفظ (الفراغ)، ومثاله قوله عز وجل: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} (الرحمن:31)، و(الفراغ) للشيء يُستعمل في التهديد كثيراً؛ كأنه فرغ عن كل شيء لأجله، فلم يبق له شغل غيره.

• ومن صيغ التهديد سوق الكلام مساق القسم، نحو قوله تعالى: {لترون الجحيم} (التكاثر:6)، فالقسم هنا يفيد التهديد، وكأن المعنى: والله لتذوقون عذاب الجحيم.

• ومن صيغ التهديد التعبير بأداة الزجر (كلا)، وهذا كثير في القرآن المكي، نحو قوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة} (القيامة:20). ونظيره قوله عز وجل: {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون} (التكاثر:3-4)، أي: سوف يعلمون عاقبة أمرهم؛ لأن سياق القول في التهديد والوعيد.

• ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة المستقبل بالإخبار عن عاقبة المعرضين، مثاله قوله تعالى: {سأريكم دار الفاسقين} (الأعراف:145)، 
ونظيره قوله سبحانه: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (الشعراء:227).

• ومن صيغ التهديد تكرار الكلام بلفظه، والقصد التهديد، مثاله قوله عز وجل: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة:141)، قال القرطبي: كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم، فأنتم أحرى. ونظير هذا قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما} (الرحمن:13)، فقد تكررت هذه الآية كثيراً في سورة الرحمن، بقصد التهديد لمن تنكر لنعم الله عليه وأفضاله.

• ومن صيغ التهديد إخباره سبحانه بعدم غفلته عما يفعله عباده، والمثال عليه قوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة:74)، فالمراد التهديد، وهو كقول الرجل لولده -وقد أنكر مسلكه في الحياة- لا يخفى عليَّ ما أنت عليه من الفساد، ولستُ غافلاً عن أمرك. ونحو هذا قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} (إبراهيم:42).

• ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة (الإنذار)، من ذلك قوله تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} (إبراهيم:44)، فالإنذار في الآية متضمن التهديد والوعيد. ونحوه أيضاً قوله سبحانه: {وأنذرهم يوم الحسرة} (مريم:39).

• ومن صيغ التهديد التعبير بلفظ الأمر ومعناه الخبر، والمراد التهديد والوعيد، مثاله قوله عز وجل: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا} (مريم:75)، فلفظ الآية أمر، والمعنى الإخبار، والقصد التهديد والوعيد، أي: إياكم أن ترتعوا في الغي والضلال، فإنه من يفعل ذلك فسوف يؤخره سبحانه ليوم تشخص فيه الأبصار.

• ومن صيغ التهديد التعبير بلفظ (الرؤية)، مثاله قوله سبحانه: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} (الأنعام:27)، أي: لو رأيت حال الوقفين على النار لرأيت أمراً عظيماً، تشيب له الولدان، والغرض من هذا التعبير التهديد والوعيد. ومثاله أيضاً قوله سبحانه: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} (الأنعام:93). وهذا كثير.

• ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة النهي، من ذلك قوله سبحانه: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} (البقرة:231) فهذا نهي مستعمل في التهديد، والتهديد إذا ذُكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديداً على تركها. ونظيره قوله تعالى: {ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا} (النساء:89).


• ومن صيغ التهديد إخباره سبحانه بعدم حبه لأمر، كقوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (الأنعام:141)، فهذا الإخبار يفيد التهديد والوعيد لمن يسلك سلوك المسرفين. ومثله كذلك قوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين} (الأعراف:55).

• ومن صيغ التهديد استعمال صيغة التخيير، مثال ذلك قوله سبحانه: {فاصبروا أو لا تصبروا} (الطور:217)، ففي الآية قوة التهديد والوعيد.

• ومن صيغ التهديد الإخبار بسلب النعم التي أنعم الله بها على عباده، مثال ذلك قوله عز وجل: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم} (الأنعام:46) .

• ومن صيغ التهديد التذكير بالأمم السالفة، وما نزل بها من العقاب والعذاب، كقوله تعالى: {وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} (سبأ:45) .

وبهذا يتبين أن التهديد في القرآن ورد بصيغ متعددة وأساليب متنوعة كلها تدل على بلاغة هذا الكتاب وإعجازه للعالمين .


••••••

[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٤ ]


جاء في كتاب الله ، قوله عز وجل :

{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

{ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }.

(يصنعون) ، (يعملون) ، (يفعلون) : تعريفها والفرق بينها في التعبير القرآني .

اختلف اللغويون قديماً وحديثاً حول حقيقة وجود الترادف في اللغة بين مثبت ومنكر.
ولغتنا العربية دقيقة بمفرداتها وألفاظها ، وهناك خلاف بين اللغويين حول وجود الترادف في اللغة بين مثبت ومنكر ، والترادف لغة هو : التتابع . 
واصطلاحًا : هو ما اختلف لفظه واتفق معناه .
أو هو إطلاق عدة كلمات على مدلول واحد .
مثل : الأسد والسبع والليث وأسامة بمعنى واحد ، 
والحسام والمهند والسيف واليماني بمعنى واحد ،
والشهد والعسل والحميت والتحموت وقيء الزنابير وريق النحل بمعنى واحد .
ويُقال بأن للسيف أكثر من ألف اسم ، وللأسد خمسمائة ، وللداهية أربعمائة ...
وكذلك مثل ( المدية والسكين ) كلمتان تدلان على دلالة واحدة ، ويقولون أسماء السيف غير مترادفة وإنما هي صفات ، فالسيف هو الاسم والباقي صفات مثل الحسام، وكذلك الأسد هو الاسم والباقي كلها صفات ، فتكون في وجهه ومشيته، فمثلا غضنفر صفة وليس كل أسد غضنفر، والقسورة من القسر يقسر الفريسة يأخذها قسراً بقوة وشدة وعنف.

في التفسير قد تفسر كلمة بكلمة بما هو أوضح للسائل ولا يجوز بيانياً أن تحل كلمة مكان كلمة في القرآن أما في الكلام العادي العام فيجوز ، وكل كلمة في القرآن لها مكانها المناسب الذي وضعت فيه ولا يجوز تبديلها حتى بكلمة تقاربها في الدلالة.
ونقف في هذا الموضوع أمام ثلاثة ألفاظ قرآنية (يصنعون) ، (يعملون) ، (يفعلون) قد يظن البعض أنها مترادفة لا فرق بينها ، والحقيقة أن الله لا ينزل آية إلا ولها موضع ولا يضع مفردة في موضع إلا وهي أنسب المفردات لهذا الموضع ولا يمكن أن يوجد ما هو انسب منها ولا يمكن أن تحلّ كلمة محلها .

يفعلون :
الفعل قد يكون بغير قصد ويصلح أن يقع من الحيوان أو الجماد ، والآيات الواردة في كتاب الله كثيرة منها :
قوله تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } - [ المائدة /٧٩]
وقوله : { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } - [ هود/ ٣٦].

يعملون :
في الأكثر فيه قصد وهذا مختص بالإنسان ، ومن ذلك قول الله عز وجل :
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } - [ البقرة/٩٦].
وقوله : { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } - [ يوسف /٦٩].
وقوله :
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } - [الكهف /٢].
وقوله :
{ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } - [ المنافقون /٢].

يصنعون : 
الصنع هو أخص ويحتاج إلى دقة ، كما في قول الله عز وجل :
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } - [النمل / ٨٨].
لأن الفعل عام والعمل أخص منه والصنع أخص ويحتاج إلى دقة.
من الآيات الواردة قوله تعالى : 
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } - [ المائدة/١٤].

وقوله : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } - [المائدة/٦٣].
وقوله : { وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } - [ النحل/١١٢].

وقوله : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } - [ النور/٣٠].
وقوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } - [فاطر/٨].

ومن ذلك يتبين أن الفرق بين الفعل والعمل هو العموم والخصوص ؛فالفعل ينسب للعاقل وغيره ، والعمل قلما ينسب لغير العاقل.
فالفعل عام والعمل خاص ، والصنع أخص منهما ؛ فالفعل ينسب إلى العاقل وإلى غيره ، وربما ينسب إلى الجمادات، وأما العمل فقلما ينسب إلى غير العاقل .
والصنع فإنه من الإنسان دون سائر الحيوانات، ولا يقال إلا لما كان بإجادة.

قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن :
( الفعل: التأثير من جهة مؤثر وهو عام لما كان بإجادة أو غير إجادة ولما كان بعلم أو غير علم وقصد أو غير قصد ولما كان من الإنسان والحيوان والجمادات والعمل مثله والصنع أخص منهما.
والفرق بين الفعل والعمل : أن العمل إيجاد الأثر في الشيء .
يقال: فلان يعمل الطين خزفا ويعمل الخوص زنبيلا والأديم سقاء .
ولا يقال: يفعل ذلك لأن فعل الشيء عبارة عما وجد في حال كان قبلها مقدورا سواء كان عن سبب أو لا ، والفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات والعمل قلما ينسب إليهما ). ا.هـ  بتصرف.


أخيرا..
الصنع أخص المعاني الثلاثة، والفعل أعمها، والعمل أوسطها ، فكل صنع عمل، وليس كل عمل صنعا، وكل عمل فعل، وليس كل فعل عملا.


والله أعلم.
••••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٥ ]


قال الله عز وجل :
{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ }
وقال { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ }
فما الفرق بين الأيام المعدودات والأيام المعلومات ؟

قال سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - :

الله جل وعلا بيَّن المعدودات وهي أيام التشريق ( وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ.. ) (203) سورة البقرة،
هذه ثلاثة: الحادي عشر، والثاني عشر والثالث عشر، هذه المعدودات،

والمعلومات :
أيام العشر مع أيام التشريق، وقال جماعة: إنها أيام العشر فقط،
وقال آخرون: إنها أيام العشر مع أيام التشريق، كلها معلومات، يكبر فيها، يكبر المسلمون فيها من أول العشر إلى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ..) (27) سورة الحـج،
فيذكروا الله في الأيام المعلومات من أول الشهر إلى نهاية اليوم الثالث عشر عند غروب الشمس، يكبروا الله ويذكروه سبحانه، فهي أيام عظيمة فاضلة، والثلاثة منها معدودات وهي الأخيرة: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهي أيام منى وأيام رمي الجمار.

فالأيام المعلومات :
هي أيام العشر ( عشر ذي الحجة ) .

والأيام المعدودات :
هي أيام التشريق .


•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٦ ]


تكرار كلمة " الرحمن " ستة عشر مرة في سورة مريم .

سميت سورة مريم باسم امرأة صالحة كاملة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " كمل من النساء ثلاثاً مريم بنت عمران وخديجة رضي الله عنها وآسيا امرأة فرعون". 
سورة مريم من أهم خصائصها أنها أكثر سورة في القرآن ورد فيها ذكر اسم (الرحمن) وهذا يساعد في تدبر السورة ومعانيها من خلال تكرار كلمة فيها أو من خلال اسم السورة وأسباب نزولها . فورود لفظ الرحمن فيها 16 مرة يستدعي التوقف عنده وهو أعلى معدل تكرر فيه هذا الاسم في سورة واحدة في القرآن وهو من أكثر الأسماء تكرراً في القرآن الكريم ابتداء من سورة الفاتحة { الرحمن الرحيم } لكن في سورة مريم تكرر بأعلى معدل 16 مرة تليها سورة الزخرف 7 مرات ، وفي سورة البقرة على طولها فقد ورد ذكر " الرحمن " مرة واحدة ، كما في قوله تعالى{ وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } (163) .
فإذن اختيار الرحمن هنا مناسب لجو السورة وتكرر إسم الرحمن فيها.
ومن ذلك يتبين أن سورة مريم هي السورة التي حظيت بأكبر نصيب من بين السور الكريمة بتكرار اسم " الرحمن " من أصل سبع وخمسين مرة في كتاب الله تعالى .
لذلك نجد أن السمة الأولى الأبرز لسورة مريم في القرآن هي ( الرحمة )، إذ ابتدأت بقوله تعالى: { كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } [مريم: 1، 2]، ومما اختتمت به السورة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، فالأجواء الرحمانية ظللت على السورة منذ افتتاحيتها وصولا إلى خاتمتها :

{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا } (18) 

{ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } (26) 

{ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا } (44) 

{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (45) 

{ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } (58) 

{ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } (61) 

{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا } (69) 

{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا ۚ } 75) 

{ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا } (78) 

{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا } (85) 

{ لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا } (87)

{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا } (88) 

{ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا } (91) 

{ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا } (92) 

{ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا } (93) 

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا } (96) 

وعندما نستعرض الآيات في السورة التي ورد فيها العذاب كما في قوله تعالى { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } (44) 
 { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (45)
مع أن الأمر متعلق بالعذاب ولم يقل مثلاً ( عذاب من الجبّار) 
وقد ذكر فيها الرحمن أيضاً ، ولعله تدركه الرحمة فيؤمن لأن إبراهيم - عليه السلام - كان حريصاً على إيمان أبيه آزر .
وفي هذه الآية ورد تهديد إبراهيم - عليه السلام -لأبيه واستخدم اسم الرحمن مع العذاب مع أن اسم الرحمن اسم ينفع المؤمن ، لأن الرحمن قد يُعذِّب من رحمته حتى يرعوي من يرعوي ، كما نحن نربي أولادنا حتى يرعوون .
ونلاحظ لفظ ( المسّ) من كلمة ( يمسك عذاب من الرحمن ) مناسب لذكر الرحمة ولم يقل مثل ما قال في سورة الأنعام { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } (47) ، حيث أتى العذاب كاملاً بينما في سورة مريم (يَمَسَّكَ عَذَابٌ)، المسّ الخفيف بينما في سورة الأنعام قال أتاكم وعذاب الله وهناك عذاب منه تنكير وبغتة أو جهرة وهلاك في الأنعام.

وأيضاً لو تأملنا الآيات التي فيها عقوبة ، كما في قوله عز وجل : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴿٨٨﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴿٩١﴾ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴿٩٢﴾ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴿٩٣﴾ } ، كل هذه الآيات تدل على أن جو الرحمة يشعّ في السورة ، بالإضافة إلى الكلمات الأخرى في السورة نفسها ( رحمت / رحمة / رحمتنا )
كما في الآيات :
{ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } (2) 

{ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا } (21) 

{ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } (50)


•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٧ ]


قال الله عز وجل : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ }.
وقال تعالى : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ }
وقال تعالى : { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ }

فما الفرق بين الصب والسكب في القرآن الكريم ؟

السكب :
هو الصب المتتابع أي نُزُوْلُ السَّائِلَ كَالمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ عُلُوِّ مُتَّصِلاً مُنْتَظِمَ الوَتِيْرةِ هَنيء ٌ لا يُصَاحِبُهُ تَلَفٌ أو فَسَادٌ للمَسْكُوبِ أو لِمَا انْسَكَبَ عليْه.
وقد ورد هذا اللفظ في موضوع واحد في القرآن الكريم ، قال تعالى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ } - [سورة الواقعة/ ٣٠-٣١] .

أما الصب :
فهو نُزُوْلُ السَّائِلَ كَالمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ عُلُوِّ بِشِدَّةٍ وَقُوَّةِ قَدْ يُصَاحِبُهَا وَ يَتْبَعُهَا ضَرَرٌ أَو تَلَف وأذىً لِمَا يُصَبُّ عَلَيه.
فالصب فيه القوة والعنف ، قال 
تعالى : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } - [ 
سورة الفجر/١٣] 

وكما في قوله تعالى : { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } - [سورة الدخان/٤٨] .

وقوله تعالى : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيم } -[سورة الحج/١٩] .

وعليه ، فاستعمال لفظ " الصب " في العذاب يوحي بظلال أخرى غير التي نحسها في لفظ "السكب " , إذ نلاحظ القوة والعنف مع الصب ، والهدوء والسلامة مع السكب .
فالانسكاب نعيما والصب عذابا .


•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٨ ]



قال الله - عز وجل - في سورة الرحمن : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 

عن جابر - رضي الله عنه - قال :
(خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها ، فلما قضى سكتوا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد قرأتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟! 
قال: إنني لما قرأتها على الجن كنت كلما تلوت: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، قال الجن: لا نكذب بأي من نعم ربنا، فلربنا الحمد) . رواه الترمذي وحسنه الألباني في الصحيح الجامع.

قال الشيخ عبدالكريم الخصير:
قوله سبحانه وتعالى : {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ذُكرت في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة ، والاستفهام فيها للتقرير .
ومعنى آلالاء: آلاء: النعم،
واحدها (إلى) كـ(معى)
أو (ألى) كـ(حصى) وفيها لغات أخرى.

وصرح جمع من أهل العلم أنه يستحب للقارئ أو السامع أن يقول 
" ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " ؛  لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- عتب على أصحابه حينما سكتوا، والجن نطقوا، قال: ((ما لي أراكم سكوتاً؟ للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [(13) سورة الرحمن] إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)) والخبر فيه كلام لأهل العلم، لكن له طرق تدل على أن له أصلاً، يعني لو قالها مرة واحدة في أول مرة أو في آخر مرة يكفي، لكن الأكمل أن تقال عند كل مرة؛ لأنه خطاب للمكلفين ينبغي الرد عليه ) . انتهى

قال أبو الفرج ابن الجوزي – رحمه الله - :
فإن قيل : ما الفائدة في تكرار قوله : ( فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ ) ؟ .
الجواب : أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها .

•••••
[ آياتٌ وتأملاتٌ - ٢٩ ]


" عَسَى " مِن الله في القرآنِ وَاجِبة ، وذلك في مثل قوله تعالى : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } -[النساء/٨٤] . 
وفي مثل قوله تعالى : { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [النساء/٩٩] .
وقوله عز وجل : { قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } - [ الأعراف/١٢٩]

قال العلامة الشيخُ ابن عثيمين : ( " عَسَى " بمعنى الرجاء إذا وقعتْ مِن المخلوق ؛ فإنْ كانت مِن الخالقِ فَهِيَ للوقوعِ ) .

وذكر أنّ معنى واجبة أي واقعة حَتْمًا . وعلّل ذلك بأنّ الرجاء في حقِّ الله تعالى غير وارد ؛ إذْ إنّه المتصرّف المدبّر ، والرجـاء إنّما يكون ممّن لا يملك الشيء فيرجـوه مِنْ غيره .
وذكر رحمه الله أنّ سبب مجيئها على صيغة التَّرَجِّـي : حتى لا يأمنَ الإنسـانُ مَكْرَ الله .
وقال الزركشيُّ : " والعرب قد تُخْرج الكلام المتيقّن في صورة المشكوك ؛ لأغراض".
وقد نسبَ الشيخُ هذه القاعدة إلى ابنِ عبّاسٍ - رضي الله عنهما .

وقد استثنى بعضُ المفسّرين مِنْ هذه القاعدة آيتين هما :
قوله تعالى : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ } - [الإسراء/٨] يعني : بني النضير فمـا رحمهم الله ، بلْ قاتَلهم رَسُـول الله ، وأوْقع عليهم العقوبة .

والثانية : 
قوله تعالى :{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ } - [التحريم/٥] فلَمْ يقع التبديل .

قالَ السيوطيّ : " وأبطل بعضهم الاستثناء ، وعمّم القاعدة ؛ لأنّ الرحـمة كانت مشْروطة بألاّ يعودوا ، كما قالَ: { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} - [الإسراء/٨] وقد عادوا ، فوجبَ عليهم العذاب ، والتبديلُ مشْروطٌ بأنْ يُطلِّقَ ولَمْ يُطلِّقْ ، فلا يجب ".

ولِذا فهذه القاعدة كلِّيةٌ لَمْ يُسْتثن منها شيءٌ على الصحيح .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق