علوم القرآن متعددة ومتشعبة ، وثمة علم من بينها يسمى علم المتشابه ، و(المتشابه) من القرآن هو : ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره ؛ إما من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى .
وهو في الجملة ثلاث أضرب :
١- متشابه من جهة اللفظ فقط
٢- متشابه من جهة المعنى فقط
٣- متشابه من جهة اللفظ والمعنى معاً .
و" علم المتشابه " علم له أصوله وفروعه ، وله علماؤه ومؤلفاته ، وله فوائده ومزاياه .
والتشابه اللفظي في الآيات الكريمة من أكثر ما يعاني منه حافظ القرآن خصوصا مبتدئ الحفظ ، مما جعل جمعاً من العلماء في القديم والحديث يؤلفون كتبا تعين على حصر وضبط المتشابه ، وبيان القواعد التي تعين الحافظ على الضبط ، وقد اختلفت مناهج هؤلاء العلماء في كتبهم وطريقة معالجتهم لتيسير ضبط المتشابه ، وهو باب مفتوح ، فقد يخطر على بال كل حافظ طريقة يستعين بها على ضبط ما يشكل عليه .
ومن المعلوم أن بعض الآيات قد تشكل على قارئ ولا تشكل على آخر لأسباب مختلفة .
وينبغي أن يستحضر بأن أفضل طريقة لذلك هي تدبر القرآن وكثرة مراجعته .
• {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ }
قال الله تعالى في سورة البقرة : { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } (الآية/٦٠)
وقال تعالى في سورة الإعراف : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } االآية/١٦٠)
• انفجرت - انبجست :
في آية البقرة {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ}،
وفي آية الأعراف {فَانبَجَسَتْ مِنْهُ}،
• تفيد معاجم العربية أن مادة (فجر) تدل على التفتح في الشيء، ومن ذلك سمي الفجر ؛ لانفجار الظلمة عن الصبح ، ومنه كذلك انفجار الماء: وهو تفتحه وخروجه من محبسه ، ويعبّر عن تدفق الماء من الحجر بشدة .
• أما مادة (بجس) فتدل على الانشقاق ، قال الخليل : " البجس: انشقاق في قُربة ، أو حجر ، أو أرض ينبع منه الماء، فإن لم ينبع فليس بانبجاس " .
ويعبر اللفظ " انبجس " عن تدفق الماء وسيلانه بشكل هادىء.
• (فانفجرت) جاءت هنا في مقام التكريم والتفضّل وهي دلالة على أن الماء بدأ بالإنفجار بالماء الشديد فجاء بحالة الكثرة مع التنعيم .
(فانبجست) جاءت في مقام التقريع ، حيث قلّ الماء بمعاصيهم فناسب ذكر حالة قلّة الماء مع تقريعهم .
• {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ) :
والشرب يحتاج إلى ماء أكثر لذا انفجرت الماء من الحجر في السياق الذي يتطلب الماء الكثير .
(كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) :
لم يذكر الشرب فجاء باللفظ الذي يدل على الماء الأقلّ (انبجست) .
• الخلاصة :
١- نلحظ الدقة القرآنية في استخدام اللفظ ؛ فالانبجاس أول خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته .
فآية الأعراف - الانبجاس - تعبير عن المرحلة الأولى من ظهور الماء ،
بينما تشير آية البقرة إلى المرحلة النهائية عندما اشتد جريان الماء .
٢- الانبجاس يكون في شيء قاس ٍ ، كالحجر والصخر ؛ والانفجار يكون في شيء لين ، كالأرض الرخوة.
_____________
الحلقة (٢٠) :
🔅 قال الله تعالى في سورة الأعراف : ﴿قالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَليمٌ يُريدُ أَن يُخرِجَكُم مِن أَرضِكُم فَماذا تَأمُرونَ قالوا أَرجِه وَأَخاهُ وَأَرسِل فِي المَدائِنِ حاشِرينَ يَأتوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَليمٍ﴾ [الآيات : ١٠٩-١١٢]
🔅 وقال تعالى في سورة الشعراء : ﴿قالَ لِلمَلَإِ حَولَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَليمٌ يُريدُ أَن يُخرِجَكُم مِن أَرضِكُم بِسِحرِهِ فَماذا تَأمُرونَ قالوا أَرجِه وَأَخاهُ وَابعَث فِي المَدائِنِ حاشِرينَ يَأتوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَليمٍ﴾ [الآيات : ٣٤-٣٧]
🔸 {قالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ} - {قالَ لِلمَلَإِ} :
القائلون في آية الأعراف هم ملأ فرعون ، في حين أن الذي قال في آية الشعراء هو فرعون نفسه ، وذلك أن المحاجّة كانت معه .
ففي الآية الأولى كان فرعون في مقام غطرسة الملك والترفع عن الكلام .
وأما في آية الشعراء فإن انقطاعه أمام موسى - عليه السلام - أنساه غطرسة الملك وكبرياءه ودفعه إلى أن يقول هو وأن يتكلم هو وأن يستعين بِمَلَئِه .
🔸زاد كلمة {بِسِحرِهِ} لمناسبة مقام التفصيل في الشعراء وللتأكيد على السحر فيها.
🔸 {وَأَرسِل} ، {وَابعَث} :
في سورة الاعراف قالوا ( أرسل) في طلب كل ساحر ، ويلاحظ الرفق في كلمة (ارسل)
بينما في سورة الشعراء قالوا (ابعث) في طلب السحار فقط ، وسحار من صيغ المبالغة ، وتدل على احتراف كبير ، وبراعه وتخصص في مهنه السحر ، ولصعوبه الحصول على من هو بهذه المواصفات قالوا (ابعث) ، و (البعث) يستعمل فيما هو أشد .
🔸 {ساحِرٍ} ، {سَحّارٍ} :
نقل الألوسيُّ توصيفات في التَّفريق بين سحار و ساحر فسحَّار بصيغة المبالغة يكون لمن يريد السِّحر، وساحر بصيغة اسم الفاعل يكون لمن سحر في وقت دون وقت، وقيل: إنَّ السَّاحر للمبتدئ في صناعة السِّحر، والسَّحَّار هو: المتمرِّس في السِّحر والمنتهى الذي يُتعلَّم منه ذلك .
وقال ابن عاشور في تفسيره : " سحَّار جاءت هنا للنَّسب دلالة على الصِّناعة، وذلك مثل: النَّجَّار، والقصَّار، وممَّا يدلُّ على ذلك مجيء عليم بالسِّحر الفائق في علمه " . انتهى
🔻الخلاصة :
باختصار لابد من معرفة لأمر مهم ، وهو أن من خصائص القصص القرآني أنه ينطبق عليه قوله تعالى : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، فلكل موضع من مواضع القصة مساهمة في بيان سماتها وما فيها من أخبار ومواعظ وعبر .
___________
الحلقة (٢١) :
🔅 قال الله تعالى في سورة إبراهيم : ﴿وَإِن تَعُدّوا نِعمَتَ اللَّهِ لا تُحصوها إِنَّ الإِنسانَ لَظَلومٌ كَفّارٌ﴾ [الآية : ٣٤]
🔅 وقال تعالى في سورة النحل : ﴿وَإِن تَعُدّوا نِعمَةَ اللَّهِ لا تُحصوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾ [الآية : ١٨]
🔸كلمة : {نِعمَتَ اللَّهِ} و {نِعمَةَ اللَّهِ} :
{نِعمَتَ اللَّهِ} : فتحت التاء المرتبطة بالاسم فهذا يجعلها بمعنى الفعل فتفتح التاء ، لأنها نعمت حصلت فكأنها مضت فلم تشكر فكانت كأنها فعل ماض ففتحت تاؤها ويدل على ذلك أن التذييل جاء بأن الإنسان ظلوم كفار.
{نِعمَةَ اللَّهِ} : نعمة متجددة مستمرة فهي بمعنى الاسم لأن الاسم لايرتبط بزمن ولهذا ربطت تاؤها ويؤيده أن التذييل جاء بقوله عز وجل ( إن الله لغفور رحيم ) .
وكذلك من الأقوال أنها جاءت برسمين مختلفين وسبق الحديث عن موضوع الرسم العثماني .
🔸ختام كل آية :
﴿إِنَّ الإِنسانَ لَظَلومٌ كَفّارٌ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾
﴿إِنَّ الإِنسانَ لَظَلومٌ كَفّارٌ﴾ :
ففي سورة إبراهيم جاءت الآيات في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى : ﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلوا نِعمَتَ اللَّهِ كُفرًا وَأَحَلّوا قَومَهُم دارَ البَوارِ﴾ [إبراهيم: ٢٨]
فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله .
﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾ :
دل على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم ، وأنهم ما زالوا في تلك النعمة ، وأن الله يغفر لمن تاب منهم .
وفي الآيتين إشارة إلى أن تلك النّعم كانت سبباً لظلم الإنسان وكفره وهي سبب لغفران الله ورحمته ، والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان .
🔻الخلاصة :
أن هذا يتعلق بسياق كل آية ؛ فسياق آية سورة إبراهيم في وصف الإنسان وذكر صفاته ، فختم الآية بصفة الإنسان (ظلوم كفار) .
أما آية سورة النحل في سياق صفات الله - سبحانه - فذكر ما يتعلق بصفات الله عز وجل ( غفور رحيم ) .
_____________
الحلقة (٢٢) :
🔅 قال الله تعالى في سورة البقرة : ﴿وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ الدّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلا عُدوانَ إِلّا عَلَى الظّالِمينَ﴾ [الآية : ١٩٣]
🔅 وقال تعالى في سورة الأنفال : ﴿وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعمَلونَ بَصيرٌ﴾ [الآية : ٣٩] .
ولو تأملنا هاتين الآيتين فسنجد الآتي :
🔸قوله : { الدّينُ لِلَّهِ } و {الدّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
قال الألوسي في تفسيره (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ) : " ولم يجئ في آية البقرة - كلمة {كله} كما في آية الأنفال ؛ لأن ما هنا - آية البقرة - في مشركي العرب ، وما هناك - آية الأنفال - في الكفار عموماً، فناسب العموم هناك وتركه هنا " . (أ.هـ)
وذكر ابن عاشور في تفسيره ( التحرير والتنوير ) وجهاً آخر لهذا الاختلاف ، فقال " زِيدَ في آية الأنفال اسم التأكيد وهو {كله} ؛ لأن هذه الآية أسبق نزولاً من آية البقرة ، فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس {الدين} بأنه لله تعالى ؛ لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين ، فلما تقرر معنى العموم ، وصار نصّاً من هذه الآية ، عدل عن إعادته في آية البقرة ؛ تطلباً للإيجاز " . ( أ. هـ )
🔸لما اختلف المقصد في الآيتين ، أعقبت كل واحدة منهما بما يناسب مقصودها على ما يقتضيه السياق والموضوع ، لذلك جاء تعقيب آية البقرة بقوله سبحانه : {فَإِنِ انتَهَوا فَلا عُدوانَ إِلّا عَلَى الظّالِمينَ}،
وهو خطاب لأهل مكة ، أي : إن انتهوا عن كفرهم .
بينما جاء تعقيب آية الأنفال بقوله تعالى : {فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعمَلونَ بَصيرٌ} ، والخطاب هنا يشمل الكل .
🔻الخلاصة :
أن آية البقرة جاءت في قتال أهل مكة (كفار قريش) ، ولا حاجة لكلمة ( كله ) لأنه دين واحد في مكة ، وهو دين عبادة الأصنام .
أما آية الأنفال فالأمر ورد عامًّا في قتال كل الكافرين ، وجاءت السورة تُفصّل أحكام الجهاد والقتال ضد عموم الكفار ، وليس كفار قريش خصوصا .
_____________
الحلقة (٢٣) :
قال الله تعالى في سورة النمل :﴿إِذ قالَ موسى لِأَهلِهِ إِنّي آنَستُ نارًا سَآتيكُم مِنها بِخَبَرٍ أَو آتيكُم بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُم تَصطَلونَ﴾ [الآية: ٧]
وقال تعالى في سورة القصص : ﴿فَلَمّا قَضى موسَى الأَجَلَ وَسارَ بِأَهلِهِ آنَسَ مِن جانِبِ الطّورِ نارًا قالَ لِأَهلِهِ امكُثوا إِنّي آنَستُ نارًا لَعَلّي آتيكُم مِنها بِخَبَرٍ أَو جَذوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُم تَصطَلونَ﴾ [الآية: ٢٩]
جاء في كتاب " لمسات بيانية " للدكتور / فاضل السامرائي :
🔸 زيادة {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} :
ففي النمل: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}
وفي القصص: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً}
🔸 زيادة {امْكُثُوا} :
في النمل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}
وفي القصص : {قَالَ لِأَهْلِهِ امكُثوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}
👈🏻 القصة في سورة النمل موجزة مجملة ، وفي سورة القصص مفصلة مطولة ، وهذا الأمر ظاهر في صياغة القصتين ، واختيار التعبير لكل منهما.
👈🏻 أن المقام في سورة النمل ، مقامُ تكريم لموسى - عليه السلام - أوضح مما هو في القصص .
ذلك أنه في سورة القصص ، كان جو القصة مطبوعا بطابع الخوف الذي يسيطر على موسى - عليه السلام - ، بل إن جو الخوف كان مقترنا بولادة موسى - عليه السلام - ، من ذلك قوله تعالى : {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي}
وقوله : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} .
وقوله : {فَأَصبَحَ فِي المَدينَةِ خائِفًا}
وقوله : فَخَرَجَ مِنها خائِفًا يَتَرَقَّبُ} .
👈🏻 قال في النمل : {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ}
وقال في القصص : {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ}
فبنى الكلام في النمل على القطع {سَآتيكُم}
وفي القصص على الترجي {لعَلّي آتيكُمْ}
وذلك أن مقام الخوف في القصص لم يدعه يقطع بالأمر فإن الخائف لا يستطيع القطع بما سيفعل بخلاف الآمن .
( انتهى كلام د. السامرائي) .
👈🏻 وكذلك يلاحظ التشابه مع الآيتين السابقتين ؛ قوله تعالى في سورة طه :
﴿وَهَل أَتاكَ حَديثُ موسى إِذ رَأى نارًا فَقالَ لِأَهلِهِ امكُثوا إِنّي آنَستُ نارًا لَعَلّي آتيكُم مِنها بِقَبَسٍ أَو أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى﴾ [٩-١٠]
في النمل : {بِشِهابٍ قَبَسٍ}
في القصص : {جَذوَةٍ مِنَ النّارِ}
في طه : {أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى}
قال الشيخ الشنقيطي في " أضواء البيان " :
" وقوله {بقبس} أي شهاب ، بدليل قوله في النمل : {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} ، وذلك هو المراد بالجذوة في قوله : {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار}
وقوله : {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} أي من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها ، لأنهم كانوا ضلوا الطريق ، والزمن زمن برد ، وقوله : {آنَسْتُ نَاراً} اي ابصرتها .
انتهى كلامه رحمه الله .
(تصطلون) أي : تتدفئون بها من البرد .
🔻 الخلاصة :
▪️المتشابه اللفظي يُظهر إعجاز القرآن الكريم ببلاغته النافذة ، وأسلوبه البديع .
▪️التكرار فيه تثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال عز وجل: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [هود: ١٢٠] .
▪️قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في التعليق على تكرار قصة موسى مع قومه - :
" وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن ، يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعاً غير النوع الآخر " .
_______________
الحلقة (٢٤) :
👈🏻 " تَستَطِع " و " تَسطِع " :
قال الله تعالى في الآيتين :
🔅﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأويلِ ما لَم تَستَطِع عَلَيهِ صَبرًا﴾ [الكهف: ٧٨]
🔅﴿ذلِكَ تَأويلُ ما لَم تَسطِع عَلَيهِ صَبرًا﴾ [الكهف: ٨٢]
👈🏻 " اسطاعوا " و " استَطاعوا " :
قال عز وجل :
🔅﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظهَروهُ وَمَا استَطاعوا لَهُ نَقبًا﴾ [الكهف: ٩٧]
🔸 جاء في تفسير ابن كثير - رحمه الله :
" لما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال {تسطع} وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا فقال {تَستَطِع} فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف ، كما قال {فَمَا اسطاعوا أَن يَظهَروهُ} وهو الصعود إلى أعلاه ، {وَمَا استَطاعوا لَهُ نَقبًا} وهو أشق من ذلك فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى " . انتهى كلامه
🔸 وقال الإمام الشوكاني - رحمه الله - في " فتح القدير " : " (فما اسطاعوا) أصله : استطاعوا، فلما اجتمع المتقاربان و هما التاء و الطاء خففوا بالحذف ، قال ابن السّكّيت : يقال : ما أستطيع ، وما أسطيع ، وما أستيع " . انتهى
🔸 وقال الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله :
(مَا لَمْ تَسْطِعْ) وفي الأول قال: (مَا لَمْ تَستْطِعْ) لأن " استطاع واسطاع ويستطيع ويسطيع " كل منها لغة عربية صحيحة .
{وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لم تأتِ التاء في الفعل الأول {اسطاعوا} وأتت فيه ثانيًا ، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد ؟
الجواب : الثاني أصعب ، ولهذا قال : {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لأنه حديد ممسوك بالنحاس . انتهى
🔻 الخلاصة :
● ذكر بعض المفسرين أن الفائدة من هذا التغاير هي فائدة لفظية ، وأن هذا هو مقتضى الفصاحة .
● زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، فزيادة حرف (التاء) في إحدى الكلمتين تدل على أن الاستطاعة فيها أشد من الكلمة التي حذفت منها التاء .
______________
الحلقة (٢٥) :
🔅 قال تعالى : ﴿وَاصبِر عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِن عَزمِ الأُمورِ﴾ [لقمان: ١٧]
🔅 وقال تعالى : ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ﴾ [الشورى: ٤٣].
🔸 ذكر د. فاضل السامرائي في كتاب (لمسات بيانية) :
" في سورة (الشورى) ورد ذكر أمرين الصبر والغفران وهما أشدّ من الصبر وحده التي وردت في سورة (لقمان) ، فكانت الحاجة لتوكيد الأمر باستخدام لام التوكيد ، والقسم في كلمة (لمن) ؛ لأنه أشقّ على النفس . فالصبر قد يقدر عليه كثير من الناس ، أما أن يصبر ويغفر هذا بالطبع لا يقدر عليه الكثيرون ، ويحتاج إلى مشقة أكبر ؛ لذا اقتضى توكيد الأمر بأنه من عزم الأمور مؤكداً بخلاف الصبر وحده الذي ورد في سورة لقمان " . انتهى
🔸 زيادة اللام في سورة الشورى : {إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ}
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره لآية الشورى :
" وقد اشتمل هذا الخبر على أربعة مؤكدات هي : اللام - إن - لام الابتداء - والوصف بالمصدر في قوله : {عزم الأمور} تنويها بمضمونه ، وزيد تنويها باسم الإشارة في قوله : ( إن ذلك ) فصار فيه خمسة اهتمامات . وهذا ترغيب في العفو والصبر على الأذى ...
والعزم : عقد النية على العمل والثبات على ذلك ، والوصف بالعزم مشعر بمدح الموصوف لأن شأن الفضائل أن يكون عملها عسيرا على النفوس لأنها تعاكس الشهوات ، ومن ثم وصف أفضل الرسل بأولي العزم " .انتهى
_____________
الحلقة (٢٦) :
🔅 قال تبارك وتعالى : ﴿حَتّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُم قَد كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا﴾ [يوسف: ١١٠]
🔅 وقال سبحانه : ﴿وَلَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبَروا عَلى ما كُذِّبوا وَأوذوا حَتّى أَتاهُم نَصرُنا﴾ [الأنعام: ٣٤]
👈🏻 ﴿جاءَهُم نَصرُنا﴾ و ﴿أَتاهُم نَصرُنا﴾ :
🔸 من العلماء من لا يرى فرقاً بين لفظتي " جاء - أتى " ، ويرى أنهما من المترادفات ، فتراه يفسر الإتيان بالمجيء والمجيءَ بالإتيان ، كما جاء في الصحاح للجواهري .
🔸 من الناحية اللغوية : (جاء ) تستعمل لما فيه مشقة ، أما (أتى) فتستعمل للمجيء بسهولة ويسر .
🔸 وتكذيب الرسل شيء معهود لكن الاستيئاس هذا شيء عظيم أن يصل الرسول إلى هذه الدرجة فهذا أمر شاق ، لذا وردت كلمة (جاءهم) في الآية الأولى ، أما في الثانية فالتكذيب هو أمر طبيعي أن يُكذّب الرسل لذا وردت (أتاهم) .
🔸 وجاء في كتاب " البرهان " :
" أن لفظة ( جاء ) لم تأتِ في القرآن إلاَّ بهذه الصيغة ، بخلاف لفظة ( أتى ) فقد جاء الماضي منها والمضارع والأمر ، فقد جاء في القرآن ( أتى، يأتي، أئتِ، يأتون، فأتنا، فأتوا ) بخلاف اللفظة الأخرى التي لم تأتِ في القرآن إلاّ بصيغة الماضي ، ولا مراء في أن لفظة ( يأتي ) أخف من لفظة ( يجيء ) .
ولفظة ( جاء ) تأتي - غالباً - مع الأعيان والأمور المشاهدة المحسوسة، بخلاف لفظة ( أتى ) فإنها تأتي مع المعاني المعنوية التي لا تُشاهد .
ويدل على هذا أمثلة كثيرة من كتاب الله ، ومن ذلك قوله ﴿وَلِمَن جاءَ بِهِ حِملُ بَعيرٍ﴾ يعني صواع الملك ؛ وهو عين ،
وقوله : ﴿وَجاءوا عَلى قَميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ ولهذا فرَّق بينهما - سبحانه - في قوله : ﴿قالوا بَل جِئناكَ بِما كانوا فيهِ يَمتَرونَ وَأَتَيناكَ بِالحَقِّ وَإِنّا لَصادِقونَ﴾ [الحجر: ٦٣-٦٤]
فقد جاءت لفظة { جئناك } ؛ لأنها للعذاب وهو مشاهد، بخلاف { الحق } فليس مرئياً فجاءت معه لفظة { أتيناك } " . انتهى
🔻 الخلاصة :
" أن هناك فروقاً بين هاتين اللفظتين ؛ إذ تختص كل واحدة منهما بدلالة عن الأخرى ، وبإيحاء ليس في أختها ، فقد وردت هاتان اللفظتان في كتاب الله كثيراً، و لكل واحدة منهما موضعها المناسب ، وسياقها الملائم ، مما يستحيل معه أن تأخذ كل واحدة منهما موضع الأخرى ، وقد تنبه كثير من العلماء إلى ما بين اللفظتين من فروق ، فأشاروا إليها ، وذكروها في مواضعها ، ومن ذلك ما يفرده بعض العلماء في مصنفاتهم فصولاً تحت عنوان ( ألفاظ يُظن بها الترادف وليست منه ) ويذكرون من هذه الألفاظ لفظتي : جاء وأتى ، ثم يذكرون ما بينهما من فروق " .
_____________
الحلقة (٢٧) :
🔅 قال تعالى : ﴿وَما كانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنًا إِلّا خَطَأً﴾ [النساء: ٩٢]
خَطَأً : بفتح الخاء والطاء .
🔅 وقوله : ﴿إِنَّ قَتلَهُم كانَ خِطئًا كَبيرًا﴾ [الإسراء: ٣١]
خِطئًا : بكسر الخاء من الخطإ وسكون الطاء .
فماالفرق بين (الخاطئ) و (المخطئ)
و(خاطئين) و (مخطئين) ؟
🔻 المادة واحدة هي : ( الخاء - الطاء - الهمزة ) والمعنى مختلف ..
👈🏻 الخاطئ :
فعله خطِئ : وهو الذي يتعمد الخطأ ، أو يواقع الذنب وهو يعلمه .
قال تعالى : ﴿إِنَّ فِرعَونَ وَهامانَ وَجُنودَهُما كانوا خاطِئينَ﴾ [القصص: ٨]
قال : (خاطئين) ولم يقل (مخطئين) !
وقال عز وجل : ﴿لا يَأكُلُهُ إِلَّا الخاطِئونَ﴾ [الحاقة: ٣٧]
جاء في تفسير الطبري : " الخاطئون ، وهم المذنبون الذين ذنوبهم كفر بالله " . انتهى
وقال تعالى: ﴿إِنَّ قَتلَهُم كانَ خِطئًا كَبيرًا﴾ [الإسراء: ٣١]
جاء في تفسير الطبري : " ( إن قتلهم كان خطئا كبيرا ) بكسر الخاء من الخطإ وسكون الطاء ، وإذا قرئ ذلك كذلك ، كان له وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون اسما من قول القائل : خطئت فأنا أخطأ ، بمعنى : أذنبت وأثمت . ويحكى عن العرب : خَطِئْت : إذا أذنبت عمدا ، وَأَخْطَأْت : إذا وقع منك الذنب خطأ على غير عمد منك له . والثاني : أن يكون بمعنى خطأ بفتح الخاء والطاء ، ثم كسرت الخاء وسكنت الطاء ، كما قيل : قِتْب وَقَتَب وَحَذَر وَحِذْر ، وَنَجِس وَنَجَس " . انتهى
👈🏻 المخطئ :
اسم الفاعل من أخطأ مخطئ ، وهو الذي لا يتعمد الخطأ ، ولا يقع في الذنبَ إلا جهلا ، أو سهوا بلا قصد منه .
ومنه قوله تعالى : ﴿وَلَيسَ عَلَيكُم جُناحٌ فيما أَخطَأتُم بِهِ وَلكِن ما تَعَمَّدَت قُلوبُكُم﴾ [الأحزاب: ٥]
وقوله : ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذنا إِن نَسينا أَو أَخطَأنا﴾ [البقرة: ٢٨٦]
جاء في تفسير الجلالين : " (أَخطَأنا) أي تركنا الصواب لا عن عمد ، كما آخذت به من قبلنا ، وقد رفع الله ذلك عن هذه الأمة ، كما ورد في الحديث ، فسؤاله اعتراف بنعمة الله " .
ومنه الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه " .
🔻 الخلاصة :
كما يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
( الصوابُ : موافقة الحق ، والخطأ مخالفته ، ثم إن كان عن عمد فالمخالف خاطئ ، وإن كان عن غير عمد فالمخالف مخطئ ) .
_____________
الحلقة (٢٨) :
🔅 قال الله تعالى في سورة المعارج :
﴿يُبَصَّرونَهُم يَوَدُّ المُجرِمُ لَو يَفتَدي مِن عَذابِ يَومِئِذٍ بِبَنيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخيهِ وَفَصيلَتِهِ الَّتي تُؤويهِ وَمَن فِي الأَرضِ جَميعًا ثُمَّ يُنجيهِ﴾ [١١-١٤]
🔅 وقال تعالى في سورة عبس :
﴿يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أَخيهِ وَأُمِّهِ وَأَبيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ﴾ [٣٤-٣٦]
👈🏻 فما الحكمة من اختلاف ترتيب أفراد الأسرة في السورتين ؟
🔻 في آية المعارج :
قال الطبري - رحمه الله - : " بدأ جلّ ثناؤه بِذِكر البنين ، ثم الصاحبة ، ثم الأخ ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء يفتدي نفسه لو وَجَد إلى ذلك سبيلاً بأحبّ الناس إليه كان في الدنيا ، وأقربهم إليه نسبا " .
🔻 وفي آية عبس :
قال الطبري : ويعني بقوله : ( يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) يفرّ عن أخيه وأمه وأبيه ، ( وَصَاحِبَتِهِ ) يعني زوجته التي كانت زوجته في الدنيا ، ( وَبَنِيهِ ) حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم " . انتهى
وجاء في " لمسات بيانية " للدكتور فاضل السامرائى :
أولاً في (سورة عبس) قال : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) إذن هو مشهد الفرار وليس مشهد العذاب مشهد الفرار يخلو بنفسه والفرار عادة يكون من الأباعد ثم ينتهي بالأقربين ... الأبعد هو الأخ قد نكون في مدينة واحدة ولا يرى أحدنا أخاه لسنة بينما يأوي الإنسان كل يوم إلى بيته وزوجه وأولاده .
في آية المعارج مشهد آخر ، هذا مشهد عذاب ، مجرم أدركه الجزع والأمر ليس فيه مساومة فأراد أن يفتدي بأثمن ما لديه. أولاً ربنا قال مجرم والمجرم يود النجاة بكل سبيل ويضحي ببنيه لأنه يصنع أيّ شيء ، فبدأ بأقرب القرابة .
لكن الملاحظ أنه ذكر الأخ والأبناء والصاحبة ولم يذكر الأب والأم في الفداء ؛ لعظيم منزلتهما عند الله لا يجرؤ أن يفتدي بهما .
فهل هذا هو الإحسان إليهما أن تضعهما مكانك في جهنم ؟ قد يفرّ منهما لكن لا يفتدي بهما أبداً " . انتهى كلام السامرائي
🔻 الخلاصة :
بدأ في سورة (عبس) بذكر الأخ فالأم فالأب فالصاحبة ثم الأبناء في الأخير ، لأنه مشهد الفرار .
وفي سورة (المعارج) على عكس ذلك ، فقد بدأ بالأبناء فالصاحبة فالأخ فالفصيلة ثم انتهى بأهل الأرض أجمعين ، لأنه مشهد العذاب .
_______________
الحلقة (٢٩) :
🔅 قال الله تعالى : ﴿لكِنِ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ جاهَدوا بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم﴾ [التوبة: ٨٨]
🔅 وقال تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم﴾ [التوبة: ١١١]
يلاحظ تقديم المال على النفس في الآية الأولى ﴿ بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم﴾ ، وتقديم النفس على المال في الآية الثانية ﴿أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم﴾ ؛ فماالحكمة من ذلك ؟
🔸اقترن جهاد المال بجهاد النفس في القرآن في عشرة مواضع ، ستاً منها في سورة التوبة ، وتقدَّم فيها جهاد المال على الجهاد بالنفس في تسعة منها ، وتقدَّم جهاد النفس على جهاد المال في موضع واحد ، ولذلك حِكَمٌ وأسرارٌ، وقف عليها المفسرون - رحمهم الله.
🔸قال ابن القيم – رحمه الله – في حكمة تقديم المال على النفس :
« أولاً : هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً وجب عليه أن يكتري بماله.
وفائدة ثانية: على تقدير عدم الوجوب؛ وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتَها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها، فندب الله - تعالى - محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته ...
ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فرَّ وتركهم، فلم يرضَ الله من محبيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتهم.
وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب؛ فإن العبد يبذل ماله أولاً يقي به نفسه، فإذا لم يبقَ له ماله بذل نفسه؛ فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع.
وأما قوله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التوبة: ١١١] ، فكان تقديم الأنفس هو الأَوْلَى ؛ لأنها هي المشتراة في الحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استلمها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّته، فكانت هي المقصودة بعقد الشراء. والأموال تَبَع لها فإذا مَلَكها مشتريها ملك مالها؛ فإن العبد وما يملكه لسيده، ليس له فيه شيء؛ فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها». كتاب [بدائع الفوائد]
🔸وقال الشنقيطي - رحمه الله - في [ أضواء البيان] :
«وحقيقة الجهاد بَذْلُ الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب، وهو مدد الجيش، وهو أهم من الجهاد بالسلاح؛ فبالمال يُشتَرَى السلاح، وقد تُستَأجَر الرجال؛ كما في الجيوش الحديثة من الفِرَق الأجنبية، وبالمال يجهَّز الجيش؛ ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم .
أما الآية الثانية: فهي في مَعْرِض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة؛ فقدَّم النفس؛ لأنها أعزُّ ما يملك الحي، وجعل في مقابلها الجنة؛ وهي أعزُّ ما يوهَب، وأحسن ما قيل في ذلك » . انتهى
🔸وفي سؤال لفضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - قال فيه السائل: نجد أن الله - عزَّ وجل - في كثير من آيات الجهاد يقدِّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ فما الحكمة من ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: يظهر - والله أعلم - لأن الجيش الإسلامي قد يحتاج إلى المال أكثر من حاجته إلى الرجال؛ ولأن الجهاد بالمال أيسر من الجهاد بالنفس . [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين] .
__________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق