قرب عام من كلّ أحد بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
وقرب خاص من عابديه وسائليه ومجيبيه ، وهو قرب يقتضي المحبة والنصرة والتأييد في الحركات والسكنات والإجابة للداعين والقبول والإثابة " . (ا.هـ)
مازلنا في تأمل آية الدعاء { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } التي وردت بين آيات الصيام ، فمن روائع البيان والتأملات - أيضاً - في هذه الآية :
• أن الله سبحانه وتعالى لم يعلق الإجابة بالمشيئة كأن يقول (أجيبه إن أشاء) ، بل قطع وأكد - سبحانه وتعالى - : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } .
• ومن التأملات أن الله - تبارك وتعالى - قال : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } ولم يقل ( أجيب الداع ) ؛ لأن الدعوة هي المطلوبة بالذات ، يجيب ما تريد أنت أي يجيب الدعوة .
وربنا سبحانه يغضب إذا لم يدعوه العبد ويحب الملحاح في الدعاء ، وفي هذا إشارة دقيقة جداً إلى مكانة الدعوة .
• أنه - سبحانه وتعالى - قدم جواب الشرط على فعل الشرط ، فلم يقل ( إذا دعان أستجب له ) ؛ وذلك للدلالة على قوة الإجابة و سرعتها.
• ومن التأملات - أيضاً - قوله تعالى : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } ولم يقل (أجيب دعوتهم) ؛ وذلك للدلالة على أنه يجيب دعوة كل داع و ليس فقط دعوة السائلين ، فوسع دائرة الدعوة ولم يقصرها على السائلين.
قال شيخ الإسلام - ابن تيمية - في مجموع الفتاوى : " والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم وقد يجيب الله دعاء الكفار فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا.
وقال أيضا: وأما إجابة السائلين فعام فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً " . ( انتهى كلامه رحمه الله)
_________
(٢٥)
ومن روائع البيان والتأملات - أيضاً - في آية الدعاء { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } التي وردت بين آيات الصيام :
• قال العلامة محمد العثيمين - رحمه الله - : " الدعاء بمعنى الطلب ، و{الداعِ} أصلها (الداعي) بالياء ، كـ (القاضي) و (الهادي) ؛ لكن حذفت الياء للتخفيف نظيرها قوله تعالى: {الكبير المتعال} ؛ وأصلها: (المتعالي) ، فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {إذا دعان} بعد قوله تعالى: {الداع} ؛ لأنه لا يوصف بأنه داع إلا إذا دعا ؟
فالجواب أن المراد بقوله تعالى: {إذا دعان} أي إذا صدق في دعائه إياي بأن شُعر بأنه في حاجة إلى الله، وأن الله قادر على إجابته ، وأخلص الدعاء لله بحيث لا يتعلق قلبه بغيره.
وقوله: {دعان} أصلها دعاني، بالياء ، فحذفت الياء تخفيفاً.
ومن هدايات هذه القاعدة ودلالتها: أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه ؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته ، لأنه تعالى قد يؤخر إجابة المسألة ليزداد الداعي تضرعاً إلى الله ، وإلحاحاً في الدعاء ؛ فيقوى بذلك إيمانه ، ويزداد ثوابه ؛ أو يدخره له يوم القيامة ؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي ؛ وهذا هو السر - والله أعلم - في قوله تعالى: {أجيب دعوة الداع} " . انتهى كلام الشيخ - رحمه الله
• ومن التأملات قوله (إذا سألك) وقوله (إذا دعان) وهذه إشارة بأن المطلوب من العبد الإكثار من الدعاء ، حيث استخدم أداة الشرط (إذا) ولم يستخدم (إن) : (إِن دَعَانِ) ، وفي هذا معانٍ بلاغية غاية في الدقة :
(إن) : تستخدم للأحداث المتباعدة والمحتملة الوقوع والمشكوك فيها والنادرة والمستحيلة ، كقوله تعالى : {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}
وقوله : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} لأن الأصل عدم اقتتال المؤمنين ،
بينما (إذا) : تعني المضمون حصوله أو كثير الوقوع ، مثل قوله (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) لأن الموت واقع لا محالة .
وكذلك نرى أن كل أحداث يوم القيامة تأتي بـ (إذا) و لم تأتِ بـ (إن) ، مثال ذلك قوله (إذا زلزلت الأرض زلزالها) ، وقوله (إذا الشمس كورت) ، وقوله (إذا وقعت الواقعة) ، وغيرها .
• ومن روعة هذا البيان هو حينما تأتيان معاً في موضع واحد فيستخدم (إذا) للكثرة ، و(إن) للندرة ، مثل قوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم .. وإن كنتم جنبا ) فجاء بـ (إذا) للوضوء لأنه كثير الوقوع و (إن) للجنب لأنه نادر الحصول ، ومثل قوله (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشةٍ ) ، فالإحصان متكرر والفاحشة من النوادر .
فمن هذا نفهم أن المعنى من قوله تعالى (إذا دعانِ) أنه يشير إلى كثرة الدعاء وبأنه دعاء متكرر مستمر كثير وليس نادراً قليلاً .
_________
(٢٦)
(ومن روائع البيان والتأملات في هذه الآية : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
• قال العلامة محمد العثيمين - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : " {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} :
أي فليجيبوا لي ؛ لأن "استجاب" بمعنى أجاب ؛ كما قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (آل عمران/١٩٥) أي أجاب
وكما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} (الشورى/٣٨)
وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا} عدَّاها باللام ؛ لأنه ضمن معنى الانقياد ، أي فلينقادوا لي ، فضَمَّن الإجابة معنى الانقياد.
• قوله: {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} :
أي وليؤمنوا بأني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ؛ واللام في الفعلين : { فَلْيَسْتَجِيبُوا } و{ لْيُؤْمِنُوا } لام الأمر ؛ ولهذا سكنت بعد حرف العطف.
• قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} :
"لعل" للتعليل ؛ وكلما جاءت "لعل" في كتاب الله فإنها للتعليل ؛ إذ إن الترجي لا يكون إلا فيمن احتاج ، ويؤمل كشف ما نزل به عن قرب ؛ أمَّا الرب - عز وجل - فإنه يستحيل في حقه هذا.
و"الرشد" يطلق على معانٍ ؛ منها:
حُسن التصرف ؛ كما في قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء/٦)
ولا شك أن من آمن بالله ، واستجاب له فإنه أحسن الناس تصرفاً ويوفّق ويُهدى وتُيسر له الأمور " . ( انتهى كلام العثيمين - رحمه الله ).
• "التوحيد" سر من أسرار عظمة هذا الدين ؛ فربنا - عز وجل - يقول : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ؛ فهذا ربك ـ أيها المؤمن ـ وهو ملك الملوك ، القهار الجبار ، الذي لا يشبه ملكه ملك ، ولا سلطانه سلطان ـ لا تحتاج إذا أردتَ دعاءه إلى مواعيد ، ولا إلى أذونات ، ولا شيء من ذلك ، إنما هو رفع اليدين ، مع قلب صادق ، وتسأل حاجتك ، كما قال بكر بن عبدالله المزني ـ أحد سادات التابعين - رحمه الله - : "من مثلك يا ابن آدم ، خلي بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت على ربك ، وليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان " . (حلية الأولياء ) .
• يا لها من نعمة لا يعرف قدرها إلا الموفق ، والذي يرى ما وقع فيه كثير من جهال المسلمين من التوسل بالأولياء والصالحين ، أو ظنهم أن الدعاء لا يقبل إلا من طريق الولي الفلاني أو السيد الفلاني ؛ يعرف حينها أن الحرمان الحقيقي للعبد حينما يحرم طرق الباب ، وأن تنسيه نفسه هذا السبيل العظيم !!
جاء عن أبي حازم - في " حلية الأولياء " : ( لأنا من أن أمنع الدعاء ، أخوف مني من أن أمنع الاجابة ) .
____________
(٢٧)
بعد أن أورد لنا ربنا - تبارك وتعالى - آداب الدعاء التي وردت بين آيات الصيام ، يبين لنا سبحانه وتعالى آداب التعامل بين الزوجين أثناء الصيام ، قال عز وجل : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } (البقرة/١٨٧) .
{أُحِلَّ لَكُمْ} : فكأن ما يأتي بالتحليل كان محرماً من قبل .
{لَيْلَةَ الصِّيَامِ} : جميع ليالي رمضان .
{الرَّفَثُ} : كناية عن الجماع ، قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - : " إن الله - عز وجل - حيي كريم ، يكني عما شاء ، وإن المباشرة والرفث والتغشي والإفضاء واللماس عني به الجماع " . (ا.هـ)
والقرآن الكريم ـ كما تعلمون ـ يعلِّمنا الأدب ، فكل العبارات التي يُفهم منها مقاربة الزوجة ، جاءت بكنايةٍ رائعة ، فمثلاً جاء ذكر الجماع في القرآن بذكر الملامسة ، كما في قوله تعالى:
{ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } (النساء/٤٣)
والدخول: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} (سورة النساء/٢٣)
والإفضاء: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (سورة النساء/٢١)
والتغشي: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } (الأعراف/١٨٩)
والمماسة: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} (البقرة/٢٣٧)
والمباشرة: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (سورة البقرة/١٨٧)
والإتيان: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} (سورة البقرة/٢٢٢)
والرفث: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } (البقرة/١٨٧)
قال العلامة محمد العثيمين - رحمه الله - في تفسير قوله :{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}:
" الجملة استئنافية للتعليل - أي تعليل حل الرفث إلى النساء ليلة الصيام - لأن الزوج لا يستغني عن زوجه فهو لها بمنزلة اللباس ؛ وكذلك هي له بمنزلة اللباس ، وعبر سبحانه باللباس لما فيه من ستر العورة والحماية والصيانة " . (ا.هـ)
___________
(٢٨)
قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة/١٨٧)
وتتمة روائع البيان والتأملات في آيات الصيام :
قال العلامة محمد العثيمين - رحمه الله - : " ثم بيَّن الله - عز وجل - حكمة أخرى موجبة لهذا الحِل {أُحِلَّ لَكُمْ} ؛ وهي قوله تعالى: { عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } أي تخادعونها بإتيانهن ، بحيث لا تصبرون ، وأصل هذا أنهم كانوا في أول الأمر إذا صلى أحدهم العشاء الآخرة ، أو إذا نام قبل العشاء الآخرة فإنه يحرم عليه الاستمتاع بالمرأة والأكل والشرب إلى غروب الشمس من اليوم التالي ؛ فشق عليهم ذلك مشقة عظيمة حتى إن بعضهم لم يصبر ؛ فبين الله - عز وجل - حكمته ورحمته بنا ، حيث أحل لنا هذا الأمر .
قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}:
أي تاب عليكم بنسخ الحكم الأول الذي فيه مشقة ، والنسخ إلى الأسهل توبة ، فيعبر الله - عز وجل - عن النسخ بالتوبة إشارة إلى أنه لولا النسخ لكان الإنسان آثماً إما بفعل محرم أو بترك واجب .
قوله تعالى: {وَعَفَا عَنكُمْ} :
أي تجاوز عما وقع منكم من مخالفة.
قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}:
كلمة «الآن» اسم إشارة إلى الزمن الحاضر ، والمراد بالمباشرة الجماع ، وسمي كذلك لالتقاء البشرتين فيه - بشرة المرأة ، وبشرة الرجل -.
وقوله تعالى: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} أي اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد .
قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي حتى يظهر ظهوراً جلياً يتميز به { الخيط الأبيض } وهو بياض النهار { من الخيط الأسود } وهو سواد الليل.
قوله تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ، وذكرها عقب قوله تعالى: { فالآن باشروهن } لئلا يظن أن المباشرة المأذون فيها شاملة حال الاعتكاف ؛ والضمير «هن» يعود على النساء .
و{عَاكِفُونَ} اسم فاعل من عكف يعكف ؛ والعكوف على الشيء ملازمته ، والمداومة عليه ، والاعتكاف في الشرع هو التعبد لله سبحانه وتعالى بلزوم المساجد لطاعة الله.
(انتهى كلامه - رحمه الله)
_____________
(٢٩)
من الآيات التي ذُكر فيها الصيام ؛ قوله تعالى : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ .....
} إلى قوله : {.... وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب/٣٥)
وقال الله تعالى في الحديث القدسي :
" كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومُ فإنه لي وأنا أَجْزِي به " ؛ فلماذا خص الله الصوم دون غيره ؟
• ذكر ابن حجر - رحمه الله - في " فتح الباري " الحكمة المستنبطة من الحديث القدسي ( إلا الصوم فإنه لي ) ، فقال :
" وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى (الصيام لي وأنا أجزى به ) ، مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزئ بها ؛ على أقوال ؛ منها :
* أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره .
* أن المراد بقوله : " وأنا أجزى به " أني انفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس .
* سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك ...
* أن جميع العبادات توفى منها مظالم العباد الا الصيام "
إلى آخر ما ذكره ابن حجر - رحمه الله
• يقول الشيخ الشعراوي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ}
" والصوم أخذ حُكْماً فريداً من بين أحكام التكاليف كلها ، لذلك قال عنه الحق سبحانه : « إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به » يعني : قرار عالٍ فوق الجميع ، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة ؟
قالوا : لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشرٌ بشراً أبداً ، فمن الممكن مثلاً :
* في شهادة أنْ لا إله إلا الله أنْ يأتي مَنْ يمدح آخر ، فيقول له : ليس في الكون إلا أنت ، أنت النافع وأنت الضار ، وهناك من قال عن نفسه : أنا الزعيم الأوحيد ،
* كذلك في الصلاة نرى مَنْ يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة ،
* وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله .
* وكذلك الحج فالله أمرنا أن نطوف بالكعبة وكم من القبور يطاف حولها ، و يطاف بأشياء غيرها كما يفعل بعضهم ؟ !
لكن ، هل قال بشر لبشر : أنا أصوم شهراً ، أو يوماً تقرُّباً إليك ؟
لا ؛ لأن الصيام للغير المماثل تذنيب للمصوم له لا للصائم ؛ لأنه سيُضطرّ لأنْ يظل طوال اليوم يراقبك ، أكلتَ أم لم تأكل !! " (ا.هـ)
• ولهذا يظهر والعلم عند الله أن المعنى الحقيقي لقوله : " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " أنه عبادة لا يمكن أن تقع لغير الله ولهذا اختصها الله جل وعلا بنفسه وأضافها الله - تبارك وتعالى - لذاته العلية إضافة تشريف .
____________
(٣٠)
كثيراً ما يرد في القران الكريم الأمر بذكر الله - تبارك وتعالى - ولا سيما في نهاية الطاعات وعند إتمام العبادات ...
- عند إتمام شهر رمضان ، يقول الله - عز وجل - في سورة البقرة :
{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} - (البقرة)
- وعند انقضاء الصلاة ، يقول الله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } - ( النساء)
- وعند الانقضاء من صلاة الجمعة يقول تبارك وتعالى :
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} - (الجمعة)
- وعند قضاء مناسك الحج في آيات متتالية - في سورة البقرة - :
{فإذا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ }
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ}
- وفي الأيام المعدودات التي هي أيام التشريق ، يقول عز وجل :
{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.
- وفي الأيام المعلومات التي هي أيام عشر ذي الحجة ، يقول الله عز وجل :
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } - (الحج)
- وكذلك في الهدي والأضحية :
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ }
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ }.
• مما يلفت الانتباه بسرعة وبقوة عند النظر في النصوص والأحكام المتعلقة بالصلاة وبالحج وبالصيام وعند الهدي والأضاحي ؛ ذلك الإلحاح المتكرر كثيرا على ذكر الله والاستغفار وتعظيم شعائر الله.
• ويأتي ربط الاستغفار والذكر بنهاية الأعمال كما في سورة الشرح : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } .
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السِّعدي - رحمه الله - : " وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَ ومنَّ بها على ربِّه ، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة ، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخر " . (ا.هـ)
• وكل هذا من الأدب مع الله تعالى بأن ندعوه دعاء ثناء ، ودعاء مسألة ، والانطراح بين يديه ، والتعلق به والتضرع إليه والتبتل والشكر له ، لأن حياة المسلم الحق كلها لله عز وجل . .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
___________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق